مسند علي بن أبي طالب رضي الله عنه 26
حدثنا سفيان، عن عمرو، قال: أخبرني حسن بن محمد بن علي، أخبرني عبيد الله بن أبي رافع، - وقال: مرة إن عبيد الله بن أبي رافع أخبره - أنه، سمع عليا، يقول: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد، فقال: " انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها ". فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة قلنا: أخرجي الكتاب. قالت: ما معي من كتاب. قلنا: لتخرجن الكتاب أو لنقلبن (1) الثياب. قال: فأخرجت الكتاب من عقاصها، فأخذنا الكتاب، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين بمكة، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا حاطب، ما هذا؟ " قال: لا تعجل علي، إني كنت امرأ ملصقا في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من كان معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفرا، ولا ارتدادا عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنه قد صدقكم " فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال: " إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله قد اطلع إلى (1) أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم "
قَوْلُهُ: "أَنَا وَالزُّبَيْرَ" : ضَمِيرُ "أَنَا" مَرْفُوعٌ مُسْتَعَارٌ لِلْمَنْصُوبِ; لِأَنَّهُ تَأْكِيدٌ لِلْمَنْصُوبِ فِي بَعَثَنِي.
"رَوْضَةَ خَاخٍ" : بِخَاءَيْنِ مُعْجَمَتَيْنِ بَيْنَهُمَا أَلِفٌ - : مَوْضِعٌ بَيْنَ الْحَرَمَيْنِ.
"ظَعِينَةً" : امْرَأَةً.
"تَعَادَى" : تَجْرِي.
"لَتُخْرِجِنَّ" : مِنَ الْإِخْرَاجِ - بِنُونٍ ثَقِيلَةٍ - ، وَالْخِطَابُ لِلْمَرْأَةِ.
"أَوْ لَتُلْقِيِنَّ" : مِنَ الْإِلْقَاءِ عَلَى خِطَابِ الْمَرْأَةِ - بِنُونٍ ثَقِيلَةٍ - قَالُوا: الصَّوَابُ فِي الْعَرَبِيَّةِ حَذْفُ الْيَاءِ; أَيْ: لَتُلْقِنَّ، بِلَا يَاءٍ; لِأَنَّ النُّونَ الثَّقِيلَةَ إِذَا اجْتَمَعَتْ مَعَ الْيَاءِ السَّاكِنَةِ، حُذِفَتِ الْيَاءُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ.
أَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ، وَتَبِعَهُ غَيْرُهُ: بِأَنَّ الرِّوَايَةَ إِذَا صَحَّتْ، نُؤَوِّلُ إِبْقَاءَ الْيَاءِ مَعَ الْكَسْرَةِ بِأَنَّهَا لِمُشَاكَلَةِ لَتُخْرِجِنَّ، وَبَابُ الْمُشَاكَلَةِ وَاسِعٌ.
"مِنْ عِقَاصِهَا" : - بِكَسْرِ الْعَيْنِ - : الشَّعْرُ الْمَضْفُورُ.
"مِنْ حَاطِبِ" : - بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَطَاءٍ مُهْمَلَةٍ مَكْسُورَةٍ - .
"ابْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ": - بِمُوَحِّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَلَامٍ سَاكِنَةٍ فَمُثَنَّاةٍ مِنْ فَوْقُ مَفْتُوحَةٍ - قِيلَ: لَفْظُ الْكِتَابِ: أَمَّا بَعْدُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَكُمْ بِجَيْشٍ كَاللَّيْلِ، يَسِيرُ كَالسَّيْلِ، فَوَاللَّهِ لَوْ جَاءَكُمْ وَحْدَهُ، لَنَصَرَهُ اللَّهُ وَأَنْجَزَ لَهُ وَعْدَهُ، فَانْظُرُوا لِأَنْفُسِكُمْ، وَالسَّلَامُ.
مُلْصَقًا": - بِفَتْحِ الصَّادِ - ; أَيْ: مُضَافًا إِلَيْهِمْ، لَا نَسَبَ لِي فِيهِمْ.
"صَدَقَكُمْ" : بِتَخْفِيفِ الدَّالِ - ; أَيْ: تَكَلَّمَ مَعَكُمْ كَلَامَ صِدْقٍ.
"عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ" : كَأَنَّهُ أَرَادَ: الْمُنَافِقَ عَمَلًا لَا اعْتِقَادًا، وَإِلَّا فَهَذَا الْإِطْلَاقُ يُنَافِي قَوْلَهُ: "صَدَقَكُمْ"، فَلَا يَحِلُّ بَعْدَ ذَلِكَ.
"قَدِ اطَّلَعَ" : أَيْ: عَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الصَّلَاحِ، وَالتَّرَجِّي رَاجِعٌ إِلَى:
قَوْلِهِ: "فَقَالَ: اعْمَلُوا. . . إِلَخْ": وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُ - تَعَالَى - عَلِمَ مِنْهُمْ أَنَّهُ
لَا يَجِيءُ مِنْهُمْ مَا يُنَافِي الْمَغْفِرَةَ، فَقَالَ لَهُمْ ذَلِكَ إِظْهَارًا لِكَمَالِ الرِّضَا عَنْهُمْ، وَأَنَّهُ لَا يُتَوَقَّعُ مِنْهُمْ - بِحَسَبِ الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ - إِلَّا الْخَيْرُ، وَأَنَّ الْمَعْصِيَةَ إِنْ وَقَعَتْ مِنْ أَحَدِهِمْ، فَهِيَ نَادِرَةٌ مَغْفُورَةٌ بِكَثْرَةِ الْحَسَنَاتِ: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هُودٍ: 114]، فَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ كَمَالِ الرِّضَا عَنْهُمْ، وَعَنْ كَمَالِ صَلَاحِ حَالِهِمْ، وَتَوْفِيقِهِمْ غَالِبًا لِلْخَيْرِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهِ الْإِذْنَ فِي الْمَعَاصِي كَيْفَ شَاءُوا، وَهَذَا كَمَا يَقُولُ أَحَدٌ لِخَادِمِهِ أَوِ امْرَأَتِهِ إِذَا رَأَى الْخَيْرَ مِنْهُمَا:
افْعَلْ مَا شِئْتَ فِي الْمَالِ أَوِ الْبَيْتِ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.