مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه 67
حدثنا يحيى، حدثنا حسين المعلم، حدثنا عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال:
فلما رجع عمرو (3) جاء بنو معمر بن حبيب يخاصمونه في ولاء أختهم إلى عمر بن الخطاب، فقال: أقضي بينكم بما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما أحرز الولد أو الوالد، فهو لعصبته من كان "، فقضى لنا به (4)
الإسلامُ دِينُ العدْلِ، ومِن مَظاهِرِ ذلك أنَّه فصَّلَ نصيبَ كلِّ وارِثٍ، وحدَّد مِقْدارَ وصيَّةِ كلِّ مُورِّثٍ؛ حتَّى لا يَطمَعَ أحَدٌ في حقِّ غيرِه فيَظلِمَه، ولا يُوصِي مُورِّثٌ بكلِّ مالِه فيَجْنِيَ على وارِثِيه
وفي هذا الحديثِ يقولُ عبدُ اللهِ بنُ عمرٍو رَضِي اللهُ عنهما: "تزَوَّجَ رِئَابُ بنُ حُذيفةَ بنِ سُعيدِ بنِ سهمٍ أمَّ وائلٍ بنتَ مَعْمَرٍ الجُمَحيَّةَ، فوَلَدَتْ له ثَلاثَةَ غِلْمةٍ"، أي: ثلاثةً مِن البَنينَ، والغِلْمةُ: جمعُ غُلامٍ، "فتُوُفِّيَت أمُّهم، فوَرِثها بَنوها؛ رِبَاعًا"، أي: وَرِث أبناؤُها البيوتَ الَّتي ترَكَتْها، ووَرِثوا "وَلاءَ مَوالِيها"، والوَلاءُ شَرعًا: عُصوبَةٌ أو قَرابةٌ حُكميَّةٌ ناشِئةٌ عن حُرِّيَّةٍ حَدَثَت بعدَ زَوالِ مِلْكٍ وبَعدِ إعتاقٍ، وهي مُؤخَّرةٌ عن عُصوبةِ النَّسَبِ، وتَقْتَضي للمُعتِقِ وعصَبتِه الإرْثَ ووِلايةَ النِّكاحِ والصَّلاةَ عليه والعَقْلَ عن المعتِقِ، "فخرَج بهم عَمرُو بنُ العاصِ إلى الشَّامِ"، أي: خرَج بأولادِ أمِّ وائلٍ، كما في روايةِ أبي داودَ: "وكان عَمرُو بنُ العاصِ عصَبَةَ بَنِيها، فأخرَجَهم إلى الشَّامِ"،
قال عبدُ اللهِ بنُ عمرٍو رَضِي اللهُ عنهما: "فماتوا في طاعونِ عَمَواسَ"، وعَمَواسُ: قريةٌ بالشَّامِ حدَثَ بها طاعونٌ في زمَنِ عُمرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِي اللهُ عنه، "فوَرِثَهم عمرٌو، وكان عصَبَتَهم"، أي: كان مِن أقرِبائِهم مِن ذَوي العُصوبةِ، والعصَبةُ: كلُّ مَن لم يَكُنْ له فَريضةٌ مُسمَّاةٌ, فإنْ بَقِي شيءٌ بعدَ الفرضِ كان له نَصيبٌ فيه، والعصَبةُ ثلاثةُ أقسامٍ: عصَبةٌ بنَفْسِه، وعصَبةٌ بغَيرِه، وعصَبةٌ مع غَيرِه، وحيثُ أُطلِقَت فالمرادُ به العصَبةُ بنَفسِه، وهو كلُّ ذَكَرٍ يُدْلِي بنَفْسِه بالقَرابةِ ليس بينَه وبينَ الميِّتِ أُنْثى، وإذا انفَرَد أخَذَ جميعَ المالِ، وإذا كان معَ أصحابِ فُروضٍ استَغرَقوا التَّرِكةَ كلَّها فلا شيءَ له، وإن لم يَستغرِقوا التَّرِكةَ كان له الباقي بعدَ فُروضِهم.
"فلَمَّا رجَع عمرُو بنُ العاصِ"، أي: إلى المدينةِ
"جاء بَنو مَعمَرٍ، يُخاصِمونه في وَلاءِ أُختِهم إلى عُمرَ"،
وفي روايةِ أبي داودَ: "فقَدِم عمرُو بنُ العاصِ، ومات مولًى لها وترَك مالًا له؛ فخاصَمه إخوتُها إلى عُمرَ بنِ الخطَّابِ"، أي: قاضى إخوةَ أمِّ وائلٍ بنتِ مَعمَرٍ، ونازَعوا عمرَو بنَ العاصِ في ميراثِ هذا المولى عندَ عُمرَ بنِ الخَطَّابِ،
"فقال عُمرُ: أَقْضي بينَكم"،
أي: أحكُمُ بينَكم "بما سَمِعتُ مِن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم؛
سَمِعتُه يقولُ: ما أحرَزَ الولَدُ أو الوالِدُ"،
أي: ما اكتَسَب الولَدُ أو الوالِدُ مِن ميراثِ الأبِ أو الأُمِّ،
"فهو لِعَصبَتِه مَن كان"، أي: فهو لِذَوي العُصوبةِ أيًّا كان، إنْ ماتوا دونَ وارِثٍ مِن أصحابِ الفُروضِ.
قال عبدُ اللهِ بنُ عمرٍو رَضِي اللهُ عنهما: "فقَضى لنا به"، أي: حكَم لنا بميراثِ هذا الْمَولى،
"وكتَب لنا به كِتابًا فيه شَهادةُ عبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوفٍ وزيدِ بنِ ثابتٍ وآخَرَ"، أي: أثبَتوا هذا الحقَّ بعَقدٍ وشُهودٍ، "حتَّى إذا استُخلِف"، أي: تولَّى الخلافةَ
"عبدُ الملِكِ بنُ مَرْوانَ، تُوفِّي مولًى لها، وترَك ألْفَيْ دينارٍ، فبَلَغني أنَّ ذلك القَضاءَ قد غُيِّر، فخاصَموا إلى هِشامِ بنِ إسماعيلَ"، وكان والِيَ المدينةِ آنَذاك لِعَبدِ الملِكِ بنِ مَرْوانَ، "فرُفِعْنا"، أي: فرُفِع أمرُنا "إلى عبدِ الملِكِ، فأَتَيْناه بكتابِ عُمرَ، فقال: إن كنتُ لأَرى أنَّ هذا مِن القضاءِ الَّذي لا يُشَكُّ فيه"، أي: هو القضاءُ والحُكْمُ الْمُبرَمُ الَّذي لا يَشُكُّ فيه أحَدٌ،
"وما كنتُ أرى أنَّ أمْرَ أهلِ المدينةِ بَلَغ هذا؛ أن يَشُكُّوا في هذا القضاءِ" الَّذي قَضى به عُمرُ بنُ الخطَّابِ بما سَمِعه مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم،
قال عبدُ اللهِ بنُ عمرٍو رَضِي اللهُ عنهما:
"فقَضى لنا فيه، فلَم نزَلْ فيه بَعدُ"، أي: بَقِي لهم هذا الوَلاءُ وهذا الحُكمُ أبدًا.