مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه 70
حدثنا يحيى بن سعيد، أنا سألته، حدثنا هشام، حدثنا (3) قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة:
أن عمر خطب يوم جمعة (1) ، فذكر نبي الله صلى الله عليه وسلم، وذكر أبا بكر رضي الله عنه، وقال: إني قد رأيت كأن ديكا قد نقرني نقرتين، ولا أراه إلا لحضور أجلي، وإن أقواما يأمروني أن أستخلف، وإن الله لم يكن ليضيع دينه، ولا خلافته، والذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن عجل بي أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وإني قد علمت أن قوما سيطعنون في هذا الأمر أنا ضربتهم بيدي هذه على الإسلام، فإن فعلوا، فأولئك أعداء الله الكفرة الضلال.
وإني لا أدع بعدي شيئا أهم إلي من الكلالة، وما أغلظ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء منذ صاحبته ما أغلظ لي في الكلالة، وما راجعته في شيء ما راجعته في الكلالة، حتى طعن بإصبعه في صدري، وقال: " يا عمر، ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء؟ " فإن أعش أقض فيها قضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن.
ثم قال: اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار، فإنما بعثتهم ليعلموا الناس دينهم، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويقسموا فيهم فيئهم، ويعدلوا عليهم، ويرفعوا إلي ما أشكل عليهم من أمرهم.
أيها الناس، إنكم تأكلون من شجرتين (2) لا أراهما إلا خبيثتين، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد، أمر به ، فأخذ بيده، فأخرج إلى البقيع، ومن (1) أكلهما، فليمتهما طبخا (2)
يَحكي عمرُ رضي الله عنه: أنَّه رأى في منامِه كأنَّ دِيكًا نقَره ثلاثَ نقَراتٍ٬ فعبَّر ذلك بمَن يَطعُنُه أو يقتُلُه بثلاثِ ضرَباتٍ؛ ولهذا قال: وإنِّي لا أراه إلَّا حُضورَ أجَلي،
ثمَّ قال: وإنَّ أقوامًا يأمُرونني أنْ أستخلفَ خليفةً، وإنَّ اللهَ لم يكُنْ ليُضِيعَ دِينَه ولا خِلافتَه، أي: إنْ أستخلِفْ فحسَنٌ، وإنْ ترَكْتُ الاستخلافَ فحسَنٌ؛ فإنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَستخلِفْ أحَدًا٬ وإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لم يكُنْ ليُضِيعَ أمرَ المُسلِمين، ولا الَّذي بعَث به نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإنْ عجِل بي أمرٌ يعني: إنْ حصَل الموتُ على عُجالةٍ أو فجأةً، فالخِلافةُ شُورَى بين هؤلاء السِّتَّةِ الَّذين تُوفِّي رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو عنهم راضٍ، وهم عثمانُ وعلِيٌّ وطلحةُ والزُّبَيرُ وسعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ وعبدُ الرَّحمنِ بنُ عوفٍ رضي الله عنهم، وإنِّي قد علِمْتُ أنَّ أقوامًا يطعُنونَ في هذا الأمرِ، يعني: يطعُنون في أمرِ الخلافةِ، أنا ضربتُهم بيدي هذه على الإسلامِ، يعني هم الآنَ يطعُنون ويَعترِضون علَيَّ٬ وعلى توليةِ الأمورِ لأهلِها٬ وأنا كنتُ أحَدَ مَن ضرَبهم على الإسلامِ، يعني: قاتلتُهم على الإسلامِ حتَّى أسلَموا٬ ثمَّ هم الآنَ يعترِضون، فإنْ فعَلوا ذلك فأولئك أعداءُ اللهِ الكفرةُ الضُّلَّالُ، أي: إذا فعَلوا ذلك مُستحلِّين له فهم كذلك٬ وإنْ لم يستحلُّوه فالمقصودُ أنَّ فِعلَهم فِعلُ الكفرةِ والضُّلَّالِ؛ لأنَّه يُفرِّق جماعةَ المُسلِمين٬ ويشُقُّ صفَّهم، ثمَّ إنِّي لا أدعُ بعدي شيئًا أهمَّ عندي مِن الكَلَالةِ٬ وما راجعتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في شيءٍ ما راجعتُه في الكَلالةِ٬ وما أغلَظ لي في شيءٍ ما أغلَظ لي فيه٬ حتَّى طعَن بإِصبَعِه في صدري، فقال: يا عمرُ٬ ألَا تكفيك آيةُ الصَّيفِ الَّتي في آخرِ سورةِ النِّساءِ، أي: إنَّ عمرَ رضي الله عنه سأَل النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنِ الكَلالةِ، وأكثَر السُّؤالَ عنها٬ فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ألا تكفيك آيةُ الصَّيفِ؟ سُمِّيَت بآيةِ الصَّيفِ؛ لأنَّها نزَلَت صيفًا٬ وإنَّ بعضَ الآياتِ نزلَتْ صيفًا، وبعضَها شتاءً، "والكَلالةُ" مَن لَيس له فَرْعٌ ولا أصلٌ وارثٌ، أي: ليسَ له والدٌ ولا ولدٌ يَرِثُه٬ فهذا يرِثُه الحواشي مِن أهلِه٬ وهم إخوانُه وأخواتُه٬ أي: الذُّكورُ والإناثُ، وإنِّي إنْ أعِشْ أقضِ فيها بقضيَّةٍ يقضي بها مَن يقرأُ القرآنَ ومَن لا يقرأُ القرآنَ، يعني: يستوي في فَهمِها العالمُ والجاهلُ، ثمَّ قال: اللَّهمَّ إنِّي أُشهِدُك على أمراءِ الأنصارِ، وإنِّي إنَّما بعثتُهم عليهم ليعدِلوا عليهم، وليُعلِّموا النَّاسَ دينَهم وسنَّةَ نبيِّهم، وهذا غايةُ التَّقوى والإخلاصِ مِن عمرَ رضي الله عنه٬ والتَّبرُّؤ مِن أغلاطِ الأمراءِ والعمَّالِ والمُوظَّفين؛ إذ يقول: ما بعثتُ الولاةَ والعمَّالَ الَّذين هم أمراءُ عمرَ رضي الله عنه على الأمصارِ والبُلدانِ، إلَّا ليَعدِلوا بين النَّاسِ في القضايا٬ وليُعلِّموا النَّاسَ دينَهم وسنَّةَ نبيِّهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم٬ ويَقسِموا فيهم فَيْئَهم، أي: غنائمَهم٬ ويرفَعوا إلَيَّ ما أشكَل عليهم مِن أمْرِهم٬ فإذا أشكَل عليهم مِن أمرهم يراجعون الخليفةَ فيه، وإنَّما قال ذلك رضي الله عنه إشهادًا للهِ عزَّ وجلَّ على عمَلِه الَّذي يوافقُ ظاهرُه باطنَه٬ وأيضًا إنَّما قال ذلك تنبيهًا ونصحًا للأمراءِ مِن بعدِه، ثمَّ قال: ثمَّ إنَّكم أيُّها النَّاسُ تأكلون شجَرتينِ لا أُراهما إلَّا خبيثتينِ، هذا البصلَ وهذا الثُّومَ، ولقد رأيتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا وجَد رِيحهما مِن الرَّجلِ في المسجدِ أمَر به فأُخرِج إلى البقيعِ٬ فمَن وُجِد منه ريحُ الثُّومِ والبصل، ونحوِهما مِن الرَّوائحِ المُنفِّرةِ والخبيثة٬ فإنَّه يُخرَج مِن المسجدِ٬ وهذا لِمَن بيدِه سلطةٌ وقدرةٌ؛ مِن والٍ ونحوِه، ومَن أكَلهما فلْيُمِتْهما طبخًا، أي: ومَن أراد أكلَهما فلْيُمِتْ رائحتَهما بالطَّبخِ، وإماتةُ كلِّ شيءٍ: كسرُ قوَّتِه وحدَّتِه.
في الحديثِ: النَّهيُ عن أكْلِ الثُّومِ والبصَلِ نِيئَيْنِ لِمَن يُصلِّي مع جماعةِ المسجدِ.
وفيه: بيانُ مَسألةِ الكَلَالةِ.
وفيه: فضيلةُ عمرَ رضي الله عنه، وعِلمُه بتأويل الرُّؤيا، وحِرْصُه على الإسلامِ ومَصلحةِ الأمَّة.
وفيه: إخبارُ الرَّجلِ بما يراه مِن رؤيا يَكرَهُها.
وفيه: الإلحاحُ في سؤالِ العالمِ ومُباحَثتِه، وتأديبُ المُعلِّمِ للمُتعلِّمِ إذا رآه أسرَف في ذلك