مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه 87
حدثنا أبو نوح قراد، أخبرنا (1) عكرمة بن عمار، حدثنا سماك الحنفي أبو زميل، حدثني ابن عباس
حدثني عمر بن الخطاب، قال: لما كان يوم بدر، قال: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاث مائة ونيف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة، ثم مد يديه، وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال: " اللهم أين ما وعدتني؟ اللهم أنجز ما وعدتني، اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام، فلا تعبد في الأرض أبدا " قال: فما زال يستغيث ربه عز وجل، ويدعوه حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه فرداه ثم التزمه من ورائه، ثم قال: يا نبي الله، كذاك (2) مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، وأنزل الله عز وجل: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} [الأنفال: 9] .
فلما كان يومئذ، والتقوا، فهزم الله عز وجل المشركين، فقتل منهم سبعون رجلا، وأسر منهم سبعون رجلا، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعليا وعمر، فقال أبو بكر: يا نبي الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، فإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم فيكونون لنا عضدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما ترى يا ابن الخطاب؟ " قال: قلت: والله ما أرى ما رأى أبو بكر ،ولكني أرى أن تمكنني (1) من فلان - قريبا (2) لعمر - فأضرب عنقه، وتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان، أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليس في قلوبنا هوادة للمشركين، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم، فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، فأخذ منهم الفداء.
فلما أن كان من الغد، قال عمر: غدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا هو قاعد وأبو بكر وإذا هما يبكيان، فقلت: يا رسول الله، أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " الذي عرض علي أصحابك من الفداء، لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة " - لشجرة قريبة - وأنزل الله عز وجل: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} إلى (3) : {لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم} [الأنفال: 67 - 68] من الفداء، ثم أحل لهم الغنائم.
فلما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون، وفر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، وأنزل الله تعالى: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير} [آل عمران: 165] بأخذكم الفداء (1)
قَوْلُهُ "يَوْمُ بَدْرٍ" : - بِالرَّفْعِ - عَلَى أَنَّ "كَانَ" تَامَّةٌ; أَيْ: تَحَقَّقَ، أَوْ - بِالنَّصْبِ - عَلَى أَنَّهَا نَاقِصَةٌ; أَيْ: كَانَ الزَّمَانُ يَوْمَ بَدْرٍ
وَنَيِّفٌ" : - بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، وَقَدْ تُشَدِّدُ الْيَاءُ مَكْسُورَةٌ"
قِيلَ: وَهُوَ الْأَصْلُ الْأَكْثَرُ: الزِّيَادَةُ قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ عَقْدًا
أَيْنَ مَا وَعَدْتَنِي؟" : طَلَبٌ لِلْمُسَارَعَةِ فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ"
* "إِنْ تُهْلِكْ" : "إِنْ" شَرْطِيَّةٌ جَازِمَةٌ، وَ"تُهْلِكْ" مِنَ الْإِهْلَاكِ"
أَوْ مِنَ الْهَلَاكِ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهُ: هَذِهِ الْعِصَابَةُ، وَالْمُرَادُ: الصَّحَابَةُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ
هَذِهِ الْعِصَابَةُ" : - بِكَسْرِ الْعَيْنِ - : الْجَمَاعَةُ، قِيلَ: هُمُ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ مِنَ الْعَشْرَةِ إِلَى الْأَرْبَعِينَ"
قُلْتُ: مُقْتَضَى الْحَدِيثِ الْإِطْلَاقُ وَتَرْكُ التَّقْيِيدِ وَالتَّحْدِيدُ بِمَا ذُكِرَ
"فَلَا تُعْبَدْ" : عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ وَالْجَزْمِ; أَيْ: وَأَنْتَ تُحِبُّ أَنْ تُعْبَدَ، فَانْصُرْهُمْ، وَلَا تُهْلِكْهُمْ، فَفِيهِ تَوَسُّلٌ إِلَى الِاسْتِجَابَةِ، قِيلَ: قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، فَلَوْ هَلَكَ هُوَ وَمَنْ تَبِعَهُ حِينَئِذٍ، لَا يُبْعَثُ أَحَدٌ يَدْعُو إِلَى الْإِيمَانِ
قُلْتُ: هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِصَابَةِ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنْ رُبَّمَا يُقَالُ: مَا كَانَ مَعَهُ كُلُّ الصَّحَابَةِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: عِنْدَ هَلَاكِ هَؤُلَاءِ يُخَافُ عَلَى الْبَاقِينَ الْهَلَاكُ أَوِ الِارْتِدَادُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
ثُمَّ الدُّعَاءُ بِذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ قَدْ سَبَقَ بِهِ الْوَعْدُ الصَّادِقُ; لِكَوْنِهِ تَعَالَى غَنِيًّا لَا يُبَالِي بِشَيْءٍ، وَإِنَّ الْوَعْدَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِقَيْدٍ وَقَعَ التَّقْصِيرُ مِنْهُمْ فِي مُرَاعَاتِهِ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ دَائِمًا عَلَى وَجَلٍ مِنَ الْأَمْرِ وَخَوْفٍ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ الِاغْتِرَارُ فِي حَالٍ، وَإِلَّا، فَلَا شَكَّ فِي كَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْغَايَةِ الْقُْوَى فِي الْعِلْمِ بِصِدْقِ وَعْدِهِ تَعَالَى
وَقِيلَ: بَلْ كَانَ الْوَعْدُ مُجْمَلًا، فَكَانَ جَائِزًا عِنْدَهُ أَلَّا يَقَعَ النَّصْرُ يَوْمَئِذٍ; لِأَنَّ وَعْدَهُ بِالنَّصْرِ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا لِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ
قُلْتُ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ، لَمَا صَحَّ أَنْ يَقُولَ: "لَمْ تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ أَبَدًا"; لِأَنَّ النَّصْرَ إِذَا كَانَ بِالْآخِرَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَا بُدَّ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهُ، وَأَيْضًا كَوْنُ الْوَعْدِ مُجْمَلًا خِلَافُ الظَّاهِرِ
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: دُعَاؤُهُ بِذَلِكَ لِيَرَاهُ أَصْحَابُهُ بِتِلْكَ الْحَالِ، فَتَقْوَى قُلُوبُهُمْ بِدُعَائِهِ وَتَضَرُّعِهِ، مَعَ أَنَّ الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ، وَقَدْ كَانَ وَعْدُ اللَّهِ تَعَالَى إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، إِمَّا الْعِيرُ، وَإِمَّا الْجَيْشُ، وَكَانَتُ الْعِيرُ قَدْ ذَهَبَتْ وَفَاتَتْ، فَكَانَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ حُصُولِ الْأُخْرَى، وَلَكِنْ سَأَلَ تَعْجِيلَ ذَلِكَ وَتَنْجِيزَهُ مِنْ غَيْرِ أَذًى يَلْحَقُ الْمُسْلِمِينَ، انْتَهَى. قُلْتُ: ظَاهِرُ لَفْظِ الدُّعَاءِ يَأْبَى ذَلِكَ; لِدَلَالَتِهِ عَلَى جَوَازِ هَلَاكِ الْعِصَابَةِ، فَالْوَجْهُ مَا ذَكَرْنَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فَرَدَّاهُ" : - بِالتَّشْدِيدِ - ; أَيْ: أَلْبَسَهُ الرِّدَاءَ"
"كَذَاكَ : قَالَ النَّوَوِيُّ: هَكَذَا رِوَايَةُ مُسْلِمٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ بِالذَّالِ، وَلِبَعْضِهِمْ: "كَفَاكَ" - بِالْفَاءِ - ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: "حَسْبُكَ"، وَكُلُّهُ بِمَعْنًى. "مُنَاشَدَتُكَ": الْمُنَاشَدَةُ: السُّؤَالُ، مَأْخُوذَةٌ مِنَ النَّشِيدِ، وَهُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ، وَهُوَ - بِالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَبِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ - لِلْكَفِّ الْمَفْهُومِ مِنَ الْكِفَايَةِ - وَالنَّصْبُ - أَشْهَرُ، وَلَعَلَّ الصِّدِّيقَ ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ تَبْشِيرًا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِظُهُورِ آثَارِ إِنْجَازِ الْوَعْدِ; حَتَّى يُخَفِّفَ عَلَيْهِ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ غَايَةِ الشِّدَّةِ، فَلَا يَرِدُ أَنَّهُ كَيْفَ لِلصِّدِّيقِ ذَاكَ،
مَعَ أَنَّ يَقِينَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوْقَ يَقِينِ كُلِّ أَحَدٍ؟
"بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ" : قِيلَ: أَيْ: مُتَتَابِعِينَ، بَعْضُهُمْ فِي أَثَرِ بَعْضٍ، وَمَا جَاءَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى بِثَلَاثَةِ آلَافٍ، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أَنَّ الْأَلْفَ جَاءُوا أَوَّلًا، ثُمَّ صَارُوا ثَلَاثَةَ آلَافٍ، ثُمَّ صَارُوا خَمْسَةَ آلَافٍ
فَهَزَمَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - الْمُشْرِكِينَ" : أَيْ: كَسَرَهُمْ، وَنَصَرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ وَالْإِخْوَانُ": أَيْ: نَسَبًا لَا دِينًا
"حَتَّى يَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَتْ فِي قُلُوبِنَا هَوَادَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ": الْهَوَادَةُ: اللِّينُ
وَالْمُرَادُ: حَتَّى لَا يَبْقَى فِينَا لِينٌ لِلْكَفَرَةِ، فَيَعْلَمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَّا ذَلِكَ مَوْجُودًا كَائِنًا; فَإِنَّ عِلْمَ الشَّيْءِ مَوْجُودًا، يَكُونُ حِينَ وُجُودِهِ
صَنَادِيدُهُمْ" : رُؤَسَاؤُهُمْ فَهَوِيَ" : - بِكَسْرِ الْوَاوِ - ; أَيْ: أَحَبَّهُ وَاسْتَحْسَنَهُ"
تَبَاكَيْتُ" : أَيْ: تَكَلَّفْتُ فِي حُصُولِهِ; لِلْمُوَافَقَةِ"
عَذَابُكُمْ" : أَيْ: عَذَابُ مَنْ عَرَضَ مِنْكُمْ، أَوْ عَذَابُ الْكُلِّ"
حَتَّى يُثْخِنَ" : أَيْ: يُكْثِرَ الْقَتْلَ وَالْقَهْرَ فِي الْعَدُوِّ"
رَبَاعِيَّتُهُ" : الرَّبَاعِيَّةُ: كَالثَّمَانِيَةِ"
وَهُشِمَتْ" : كُسِرَتْ"