هل يؤخذ من قاتل العمد الدية إذا عفا ولي المقتول عن القود 2
سنن النسائي
أخبرنا العباس بن الوليد بن مزيد، قال: أخبرني أبي قال: حدثنا الأوزاعي، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني أبو سلمة، قال: حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يقاد وإما أن يفدى»
كان الناسُ في الجاهليَّةِ يَتعايَشون فيما بيْنهم بضَلالاتِها، مُشرِّعينَ أنواعًا مِن الظُّلمِ وسَفْكِ الدِّماءِ، فجاء الإسلامُ فحرَّمَ كلَّ أنواعِ الظُّلمِ، وشدَّدَ في سَفْكِ الدِّماءِ بغيرِ وجْهِ حقٍّ
وفي هذا الحديثِ يَحكي أبو هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ قَبيلةَ خُزاعةَ قتَلوا رجُلًا مِن بني لَيثٍ بقَتيلٍ منهم قَتَلوه في الجاهليَّةِ، وكان ذلك عامَ فتْحِ مكَّةَ في السَّنةِ الثامنةِ مِن الهِجرةِ، فعَلِمَ بذلك النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فخطَبَ النَّاسَ وهو على راحلتِه -وهي ناقتُه التي يَركَبُها- ووضَّح لهم أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قد حبَسَ القَتْلَ أو الفِيلَ عن مكَّةَ يومَ أنْ حاوَلَ أبرهةُ الحَبشيُّ هدَمَ الكَعبةَ قبْلَ بَعثةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأربعينَ سَنةً، والذي جاء ذِكرُه في قولِ اللهِ تعالَى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}، فأرسَلَ اللهُ تعالَى على أصحابِه جَماعاتٍ من الطَّيرِ تَرمِيهم بحِجارةٍ حِين وَصَلوا إلى بطْنِ الوادي بالقُربِ مِن مكَّةَ فأهلَكَتْهم.وإنَّما ذكَّرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أصحابَه رَضيَ اللهُ عنهم بحادثِ الفِيلِ في مَعرضِ خُطبتِه فيهم؛ لبَيانِ حُرمةِ القتْلِ في مكَّةَ، فمعَ كَونِ أهلِ مكَّةَ وَقتئذٍ كُفارًا دافَعَ اللهُ عنها، فحُرمةُ أهْلِها بعدَ الإسلامِ آكَدُ.ولكنَّ اللهَ سلَّطَ على أهلِ مكَّةَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وصَحابتَه رَضيَ اللهُ عنهم، ولم يَحِلَّ في مكَّةَ القِتالُ إلَّا وَقتَ دُخولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إيَّاها فَاتِحًا مع أصحابِه، ثُمَّ عادَتْ حُرْمَتُها كما كانتْ، وأنَّها لم تَحِلَّ لأحدٍ قبْلَه، ولنْ تَحِلَّ لأحدٍ بعدَه؛ لأنَّ تَحريمَ مكَّةَ أمْرٌ قَديمٌ، وشَريعةٌ سالفةٌ ومُستمِرَّةٌ، ليس ممَّا أحْدَثهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أو اختُصَّ بشَرْعِه، وقد عادَتْ إليها حُرمتُها بعْدَ الفتْحِ.ثمَّ حرَّمَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُقطَعَ نَباتُها؛ لا الشَّجَرُ الكِبارُ ولا الشَّجَرُ الصِّغارُ، أوِ النَّباتُ الصَّغيرُ الذي هو الحَشيشُ الرَّطبُ، إلَّا نَباتَ الإذخِرِ؛ لحاجةِ النَّاِس إليه، وهو: نَباتٌ عُشبيٌّ عَريضُ الأوراقِ، له رائحةٌ لَيمونيَّةٌ عَطِرةٌ، أزهارُه تُستَعملُ مَنقوعةً كالشَّايِ، وهو نَباتٌ نافِعٌ في حَرْقِه بَدَلًا مِنَ الحَطَبِ، ويَجعَلونَه في أسقُفِ بُيوتِهم، وكذا لِسُقُفِ قُبورِهم، فاستَثناهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِنَ النَّهيِ عن قَطْعِه.والرَّجلُ مِن قُريشٍ الذي طَلَبَ استثناءَ الإذخرِ هو العبَّاسُ رَضيَ اللهُ عنه، كما جاء في الصَّحيحينِ، وسُؤالُه كان على سَبيلِ الضَّراعةِ، وتَرخيصُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان تَبليغًا عن اللهِ تعالَى؛ إمَّا بطَريقِ الإلهامِ، أو بطَريقِ الوحْيِ. وقولُه: «ولا يُخْتلى شَوكُها»، أي: لا يُؤخَذُ ويُقطَعُ، وذِكرُ الشَّوكِ دَليلٌ على أنَّ غيرَه ممَّا لا يُؤْذي بالأَولى، ولكنَّه يُخصَّصُ بالمُؤذي، فيَجوزُ قطْعُه قِياسًا على حلِّ قتْلِ الفواسقِ الخَمْسِ في الحرَمِ بجامعِ الإيذاءِ.وحرَّمَ أنْ تُؤخَذَ لُقَطَتُها إلَّا لِمَن عرَّفها، فلا يُؤخَذُ شَيءٌ سَقَطَ مِن صاحبِه في مكَّةَ، بلْ يُترَكُ مكانَه حتَّى إذا رَجَعَ صاحبُه وجَدَه، ولا يَأخُذه إلَّا مَن نَوى أنْ يُعرِّفَه ويَحفَظَه حتَّى يَأتِيَ صاحبُه.ثم خيَّر النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أولياءَ الدَّمِ بيْن قَبولِ الدِّيَةِ «العقْل» وبيْن القَوَدِ وقَتْلِ القاتلِ قِصاصًا، وذلك في قتْلِ العمْدِ؛ وإلَّا فإنَّ القتْلَ الخطَأَ لا يكونُ فيه إلَّا الدِّيةُ. والعقْلُ «الدِّيةُ»: هو مِقدارُ ما يُدفَعُ من مالٍ مِن الجاني إلى المَجنيِّ عليه بقَدْرِ ما وقَعَ فيه مِن جِنايةٍ، وسُمِّيَت عقْلًا؛ لأنَّهم كانوا يَعقِلون الإبلَ ويَربِطونها بفِناءِ دارِ المُستحِقِّ للعقْلِ.وفي رِوايةِ أحمَدَ عن أبي شُريحٍ رَضيَ اللهُ عنه: أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أعْطى الدِّيةَ في الَّذي قَتلَتْهُ قَبيلةُ خُزاعةَ مِن بني لَيثٍ. وفي هذا الموقِفِ جاءَ رَجُلٌ مِن أهْلِ اليَمَنِ -وهو أبو شاهٍ، كما في الصَّحيحينِ- فطلَبَ مِن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَكتُبَ له بَعضَ السُّننِ التي تَنفَعُه، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «اكْتُبُوا لأبِي فُلَانٍ»، وهذا أمرٌ صَريحٌ بالكِتابةِ، وإنْ كان قد سَبَقَ مِن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ النَّهيُ عن كِتابةِ السُّننِ، فقال أكثرُ أهلِ العِلمِ: إنَّ أحاديثَ الأمْرِ بالكِتابةِ ناسِخةٌ لأحاديثِ النَّهيِ عنها؛ فقد كان النَّهيُ لعِلَّةٍ؛ فإنَّه ربَّما اختلَطَ حَديثُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالقُرآنِ، فلمَّا زالتِ العِلَّةُ أُذِنَ في الكِتابةِ؛ لزَوالِ المَحذورِ مِن الكِتابةِ، ويُؤيِّدُ هذا عُمومُ ألفاظِ الأمرِ بالكِتابةِ، وأنَّها مُتأخِّرةٌ في الزَّمنِ، وقيل: إنَّ النَّهيَ إنَّما كان عن كِتابةِ الحديثِ مع القُرآنِ في صَحيفةٍ واحدةٍ؛ لأنَّهم كانوا يَسمَعونَ تَأويلَ الآيةِ، فربَّما كَتَبوه معها، فنُهوا عن ذلك لخَوفِ الاشتِباهِ، وأُذِنَ لهم في كِتابةِ السُّنةِ مُستقِلَّةً، أو لأفرادٍ وفي حوادثَ قَليلةٍ لمُحتاجٍ ونحوِه، فلمَّا كمَل الوحيُ انتفَتْ تِلك العِلَّةُ، وذلك بعدَ أنْ رسَخَتْ مَعرفةُ الصَّحابةِ بالقُرآنِ؛ فلمْ يُخشَ خَلطُهم له بغَيرِه مِن حَديثِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. وقيل: إنَّ النَّهيَ كان في حَقِّ مَن يُوثَقُ بحِفظِه مَخافةَ أنْ يتَّكِلَ على الكِتابةِ، وأمَّا الإذنُ فهو في حقِّ مَن لا يُوثَقُ بحِفظِه. وبعضُ الصَّحابةِ داوَمَ على عدَمِ الكِتابةِ مِن بابِ الحِرصِ والتَّحرُّجِ والتأثُّم الشَّخصيِّ أنْ يَتحمَّلَ بعضَ وِزرِ الخَلطِ بيْنَ القرآنِ وشَيءٍ مِن السُّنَّةِ، أو خَشيةَ أنْ يَنشغِلَ عن كِتابةِ القرآنِ
وفي هذا الحديثِ: تَذكيرُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ النَّاسَ نِعمةَ اللهِ في حبْسِ الفيلِ عن مكَّةَ؛ فإنَّها كانت آيةً شهِدَ بها كلُّ مُحِقٍّ ومُبطِلٍ
وفيه: أنَّ الإنسانَ إذا سَمِعَ الكلامَ الجَزْلَ الَّذي لا يُمكِنُه ضبْطُه حِفظًا؛ فإنَّه يَنْبغي له أنْ يَطلُبَ كِتابتَه، كما فعَلَ أبو شَاهٍ
وفيه: جَوازُ مُراجَعةِ العالِمِ في المصالحِ الشَّرعيةِ، والمُبادرَةُ إلى ذلك في المَجامِعِ والمَشاهِدِ
وفيه: الأمْرُ بكِتابةِ حَديثِه وسُنَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ