البيع يكون فيه الشرط الفاسد، فيصح البيع ويبطل الشرط 3
سنن النسائي
أخبرنا قتيبة بن سعيد، عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، أن عائشة، أرادت أن تشتري جارية تعتقها، فقال أهلها: نبيعكها على أن الولاء لنا، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «لا يمنعك ذلك، فإن الولاء لمن أعتق»
حَثَّ الشَّرعُ على عِتْقِ المماليكِ، وجعَلَ ثَوابَ مَن أعتَقَ رقَبةً خالصةً للهِ أنْ يُعتِقَه اللهُ مِن النَّارِ، وقدْ نَظَّم الشَّرعُ أُمورَ العِتقِ وما يَتبَعُه مِن عَلاقاتِ وَلاءٍ ومِيراثٍ تَنشَأُ بيْن المُعتِقِ والمُعتَقِ الَّذي تمَّ تَحريرُه
وفي هذا الحَديثِ يَحكي التابعيُّ القاسمُ بنُ محمَّدِ بنِ أبي بَكرٍ أنَّه شُرِعَ بسَببِ بَرِيرَةَ بنتِ صَفْوانَ رضِيَ اللهُ عنها، وكانتْ مَوْلاةً لأمِّ المُؤمِنينَ عائشةَ رضِيَ اللهُ عنها ثَلاثُ سُنَنٍ، يعني: ثَلاثةُ أحْكامٍ شَرعيَّةٍ انتفَعَ بها النَّاسُ
وكانتْ أُولى هذه السُّنَنِ حِينما أرادتْ أمُّ المُؤمِنينَ عائشةُ رَضِيَ اللهُ عنها أن تَشْتريَها فتُعتِقَها، فقال مالِكوها: «ولنا الولاءُ»، يعني: تُعتِقُها ولهم ولاؤُها بعد عِتْقِها، والوَلاءُ هو: ما يَحصُلُ بيْن المُعتِقِ والمعتَقِ مِن نِسْبةٍ، أو شِبْهِ قَرابةٍ لأجْلِ العِتقِ، الَّذي هو تَحْريرُ الرَّقَبةِ وتَخليصُها مِن الرِّقِّ، ويَحدُثُ بيْنهما الإرثُ إذا لم يَكُنْ للعَتيقِ وارثٌ، ويَصِيرُ العَتيقُ مِثلَ أحَدِ الأقارِبِ، فيُوالي مَن أعْتَقَه ويَنصُرُه، وقدْ كانتِ العرَبُ تَبيعُ هذا الحقَّ وتَهَبُه، فنَهى الشَّرعُ عنه؛ لأنَّ الوَلاءَ كالنَّسَبِ، لا يَقبَلُ الزَّوالَ، فذَكَرتْ أمُّ المُؤمِنينَ عائشةُ رَضِيَ اللهُ عنها ذلك الشَّرطَ الذي اشترطوه لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: «لو شِئتِ شَرَطْتِيهِ لهم؛ فإنَّما الوَلاءُ لمَن أعتَقَ»، فبَيَّن النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعائِشةَ أنْ تَشْتريَها على ما يَشْترِطون مِن أنَّ الوَلاءَ لهم، ولا تُبالي، سَواءٌ شَرَطوهُ أمْ لا؛ فإنَّه شَرْطٌ باطِلٌ، والوَلاءُ لِمَن أعتَقَ. ولا مخادَعةَ في هذا الفِعلِ مِن أمِّ المُؤمِنينَ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها؛ لأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان بَيَّن لهم حُكمَ الولاءِ، وأنَّ هذا الشَّرطَ لا يحِلُّ لهم، فلما ألحُّوا في اشتراطِه قال لها: لا تبالي، سواءٌ شَرطْتِه أم لا؛ فإنَّه شرطٌ باطِلٌ، وقد سبق بيانُ ذلك لهم
وذكَرَ القاسمُ بنُ محمَّدٍ السُّنَّةَ الثَّانيةَ: أنها لَمَّا أُعتِقَت خيَّرَها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في البَقاءِ عندَ زوْجِها، واسمُه مُغِيثٌ، وكان عبْدًا أَسْوَدَ، أو فِراقِه وفسْخِ نِكاحِه؛ لأنَّها صارتْ حُرَّةً. وقد اختارت بَريرةُ فِراقَ زَوجِها مُغيثٍ، برَغْمِ حُبِّه لها؛ وذلك لانعدامِ الكفاءةِ بينهما؛ لأنَّ المرأةَ إذا صارت حُرَّةً، وكان زوجُها مملوكًا لم يكُنْ مُساويًا لها
وذكر السُّنَّةَ الثَّالثةَ: أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دخَلَ يومًا بَيتَ أمِّ المُؤمِنينَ عائشةَ رضِيَ اللهُ عنها، فرأى على النَّارِ بُرْمَةً تَفُورُ، والبُرْمةُ: قِدرٌ أو إناءٌ مُتَّخَذٌ مِن حَجَرٍ، وقيل غيرُ ذلك، فطلب النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الغداءَ، فأحضروا له خُبزًا وأُدْمًا من أُدْمِ البيتِ، وهو ما يُؤكَلُ مع الخُبزِ ممَّا يَطيبُ، كالأمراقِ والمائِعاتِ، أو مِنَ الجُبنِ والبَيضِ، والزَّيتونِ والبُقولِ، والخَضرَواتِ، وغَيرِ ذلك، ممَّا يُوجَدُ في البيتِ عادةً، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ألَمْ أَرَ لَحْمًا؟» يُريدُ أنْ يَقولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيْن اللَّحمُ الذي كان يُطبَخُ في البُرمةِ؟ فأخبروه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه كان هناك لحمٌ في البُرمةِ، ولكنَّه لحمٌ تُصُدِّقَ به على بَرِيرَةَ، فأهدَتْه لهم، يُريدونَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يَأكُلُ الصَّدقةَ، فقال لهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «هو صَدَقةٌ عليها، وهَديَّةٌ لنا»، أي: هي ملَكَتْهُ بسَببِ التَّصدُّقِ به عليها، ونحن نَمْلِكُهُ بسَببِ إهْدائِها لنا منه، فقدِ اختلَفَ سَببُ المِلكِ، فاختلَفَ الحُكمُ وجازَ لنا أكلُه
وفي الحَديثِ: دَلالةٌ على مَشروعيَّةِ الصَّدقةِ على مَوالي أزْواجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، لكنْ بشَرْطِ ألَّا تكونَ السَّيِّدةُ هاشميَّةً، ولا مُطَّلِبيةً، كزَينبَ بِنتِ جَحْشٍ؛ لِحَديثِ أبي داودَ والنَّسائيِّ: «إنَّ الصَّدَقةَ لا تَحِلُّ لنا، وإنَّ مَولى القومِ منْهم»