باب إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط أو سترة
بطاقات دعوية
عن عائشةَ قالت: كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يصَلي منَ الليْلِ [في المسجد ] في حُجْرتهِ ، وجدارُ الحُجرةِ قصيرٌ، فرأَى الناس شخْصَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (ومن طريقٍ أخرى: كان له حصير يبسطه بالنهار [فيجلس عليه] ويحتجرُه بالليل)، فقام (وفي الطريق الأُخرى: فثابَ إليه) أُناسٌ يصَلونَ بصلاتِه، فأصبَحوا، فتحدَّثوا بذلكَ، فقامَ ليلةَ الثانيةِ، فقامَ معَه أناسٌ [أكثر منهم ] يصَلونَ بصلاتِه، صنَعوا ذلكَ ليلتَينِ، أو ثلاثةً، [فكثُرَ أهلُ المسجدِ من الليلةِ الثالثة، فخرج رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فصلَّى، فصَلَّوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجَزَ المسجدُ عن أهلِهِ]، حتى إذا كانَ بعدَ ذلكَ جلَس رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فلَم يخرُجْ [إليهم]، فلمَّا أصبَح، ذكَر ذلكَ الناسُ، [فتشهَّد] فقالَ: (وفي روايةٍ: حتى خَرَجَ لصلاة الصبح، فلما قضى الفجرَ أقبل على الناسِ فتشهَّدَ ثم قال: (أما بعد، فإنه لم يخفَ عليَّ مكانُكم) (وفي روايةٍ: قد رأيت الذي صَنَعْتم، ولم يمنعني من الخروجِ إليكم إلا) أني خَشيتُ أنْ تُكتَبَ عليكم صلاةُ الليْلِ [فتعجزوا عنها] "، [فَأقبل فقال:
"يا أيها الناس! خذوا (وفي رواية: اكلَفوا) من الأَعمال ما تُطيقُونَ، فإنَّ اللهَ لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا، وإن أحبَّ الأَعمالِ إلى اللهِ ما دامَ وإن قلَّ] "، [وذلك في رمضانَ]. [فتوفي رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - والأَمرُ على ذلك].
كان رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رَحيمًا بأُمَّتِه، ومِن دَلائلِ رحمتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه كان في بعضِ الأوقاتِ يَترُكُ بعضَ الأعمالِ غيرِ المفروضةِ خشيةَ أن تُفرَضَ؛ وذلك لِما تمتَّعَ به أصحابُه رَضيَ اللهُ عنهم مِن حُبِّ الاقتِداءِ به صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والمُسارَعةِ لمُوافَقتِه.
وفي هذا الحديثِ تَروي لنا أمُّ المؤمنينَ عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان يُصلِّي مِن اللَّيلِ في حُجرتِه، وهو مَوضِعٌ اتَّخَذه رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالمسجدِ يُصلِّي فيه، وقد ورد في روايةٍ أخرى للبُخاريِّ عن عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان له حصيرٌ يَبسُطُه بالنَّهارِ، ويَحتجِرُه باللَّيلِ، فثابَ إليه ناسٌ فصَفُّوا وراءَه. وهذا هو المرادُ بالحُجرةِ، وليس المرادُ حُجرةَ عائشةَ أو حُجرةً من حُجُراتِ نسائِه الَّتي كان يَسكُنُ فيها هو وأهلُه؛ فإنَّ حُجُراتِ أزواجِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانتْ لها جُدُرٌ تَحجُبُ مَن كان خارجًا منها أن يَرى مَن في داخِلِها.وهذه الصَّلاةُ التي قام رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُصلِّيها هي الَّتي عُرِفتْ فيما بَعدُ بصلاةِ التَّراويحِ، وقد ذكَرَتْ أمُّ المؤمنينَ عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها في روايةٍ أخرى أنَّ ذلك كان في رمضانَ، ووصفَتْ جدارَ الحُجرةِ الَّتي كان يُصلِّي فيها بأنَّه قصيرٌ، وكان مِن حصيرٍ، فرأى النَّاسُ شَخصَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، يعني: رأَوْا ظِلَّهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أثناءَ صَلاتِه، فالشَّخصُ سَوادُ الإنسانِ وغيرِه، يَراه الرَّائي مِن بعيدٍ، وعُبِّر بلفظِ: الشَّخصِ؛ لأنَّ ذلك كان باللَّيلِ، ولم يَكونوا يُبصِرون منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ورضيَ الله عنهم إلَّا سَوادَهُ، فقاموا مُقتدينَ به صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في صَلاتِه، ثمَّ انتشَر هذا الحدَثُ بيْنَ المُسلِمينَ، وتكرَّر هذا الأمرُ في لَيلتَينِ أو ثلاثٍ، وزاد عددُ المُؤتَمِّينَ به صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فلمَّا رأى النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ منهم هذا الحِرصَ وهذا الاجتِماعَ على النافلةِ لم يُصَلِّ صلاتَه تلك، فذكَر له النَّاسُ ذلك الأمرَ، وسألوه عن سببِ عدَمِ قيامِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فوضَّح لهم أنَّ سببَ ذلك هو خشيتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن تُفرَضَ هذه الصَّلاةُ عليهم؛ وذلك أنَّ الأمَّةَ مأمورةٌ بالاقتِداءِ به عليه الصَّلاة والسَّلامُ، ولَمَّا كان قيامُ اللَّيلِ فرضًا عليه، دُونَ أُمَّتِه، خَشيَ إنْ خرَج إليهم والتَزَموا معه قيامَ اللَّيلِ أن يُسوِّيَ اللهُ بيْنَه وبيْنَهم في حُكمِه؛ لأنَّ الأصلَ في الشَّرعِ المُساواةُ بيْنَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وبيْنَ أُمَّتِه في العِبادةِ. ويحتملُ أن يَكونَ خشيَ مِن مواظبتِهم عليها أن يَضعُفوا عنها، فيَقَعَ مَن تَرَكها في ترْكِ اتِّباعِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفي الحديثِ: جوازُ الائتمامِ بمَن لم يَنْوِ أنْ يكونَ إمامًا في تلك الصَّلاةِ.
وفيه: مشروعيَّةُ التنفُّلِ في جَماعةٍ.
وفيه: بيانُ شفَقتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على أُمَّتِه.