باب التثبت في الفتنة3
سنن ابن ماجه
حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف، عن الحسن، حدثنا أسيد بن المتشمس
حدثنا أبو موسى، حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن بين يدي الساعة لهرجا" قال: قلت: يا رسول الله، ما الهرج؟ قال: "القتل، القتل" فقال بعض المسلمين: يا رسول الله، إنا نقتل الآن في العام الواحد من المشركين كذا وكذا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس بقتل المشركين، ولكن يقتل بعضكم بعضا، حتى يقتل الرجل جاره وابن عمه وذا قرابته" فقال بعض القوم: يا رسول الله، ومعنا عقولنا ذلك اليوم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا، تنزع عقول أكثر ذلك الزمان، ويخلف له هباء من الناس لا عقول لهم".
ثم قال الأشعري: وايم الله، إني لأظنها مدركتي وإياكم، وايم الله، ما لي ولكم منها مخرج إن أدركتنا فيما عهد إلينا نبينا - صلى الله عليه وسلم -، إلا أن نخرج منها كما دخلنا فيها (1)
يومُ القِيامةِ يومٌ شأنُه عظيمٌ، وقد أخبَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم أنَّ قبْلَه تَحدُثُ فِتَنٌ عظيمةٌ وأحداثٌ مُتوالِيَةٌ فيها مِن الأهوالِ والأفعالِ ما يَصعُبُ على العُقولِ تَصوُّرُه.
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ الصَّحابيُّ الجليلُ أبو موسى الأشعريُّ رضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم قال: "إنَّ بينَ يدَيِ السَّاعةِ لَهَرْجًا"، أي: يقَعُ قبلَ قيامِ القِيامةِ هرْجٌ كثيرٌ بينَ النَّاسِ، قال أبو مُوسى: "يا رسولَ اللهِ، ما الهَرْجُ؟ قال: القَتلُ"، فقال بعضُ المسلِمين مُستفسِرًا عن كيفيَّةِ وقوعِ القَتلِ في آخِرِ الزَّمانِ: "يا رسولَ اللهِ، إنَّا نَقتُلُ الآنَ في العامِ الواحدِ مِن المشرِكينَ كذا وكذا"، أي: نَقتُلُ كثيرًا مِن المشرِكين؛ فهل هذا هو المقصودُ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "ليس بقَتْلِ المشرِكين، ولكن يَقتُلُ بعضُكم بعضًا"، أي: القتلُ المقصودُ هو أن يَقتُلَ المسلِمون بعضُهم بعضًا، دون مُراعاةٍ لِحُرمةِ دَمٍ أو دِينٍ أو قَرابةٍ! "حتَّى يَقتُلَ الرَّجلُ جارَه وابنَ عمِّه وذا قَرابتِه، فقال بعضُ القومِ"؛ تَعجُّبًا مِن هذا الفعلِ الَّذي لا يَفعَلُه عاقلٌ: "يا رسولَ اللهِ، ومعَنا عُقولُنا ذلك اليومَ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "لا, تُنزَعُ عُقولُ أكثرِ ذلك الزَّمانِ"، أي: لا عَقْلَ لكُم في تِلكُم الأيَّامِ وتُسلَبُ عُقولُ أكثَرِ النَّاسِ، ويَحتمِلُ أن يَكونَ المرادُ: أنْ يَقِلَّ عُقلاءُ هذا الزَّمانِ، "ويَخلُفُ له هَباءٌ مِن النَّاسِ لا عقولَ لهم"، أي: ويَكثُرُ فيهم أناسٌ لا عَقلَ لهم ولا فَهْمَ ولا عِلمَ عِندَهم، وفي روايةٍ: "يَحسَبون أنَّهم على شَيءٍ، ولَيسوا على شيءٍ"، أي: يَظُنُّون أنَّهم على حقٍّ أو على عِلمٍ وهم لَيسوا كذلك.
قال أبو موسى الأشعريُّ رَضِي اللهُ عَنه: "وايمُ اللهِ"، أي: أُقسِمُ باللهِ: "إنِّي لأَظُنُّها مُدرِكَتي وإيَّاكم"، أي: إنَّ ما يَغلِبُ على ظَنِّي أنَّ هذه الفِتنةَ ستُدرِكُنا ونقَعُ فيها، "وايمُ اللهِ، ما لي ولَكم منها مَخرَجٌ إنْ أدرَكَتْنا فيما عَهِد إلينا نبيُّنا صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم إلَّا أن نَخرُجَ كما دخَلْنا فيها"، أي: المخرَجُ مِنها هو عدَمُ الوُقوعِ في شَرِّها. وفي روايةٍ: "لم نُصِبْ منها دَمًا ولا مالًا"، أي: لم نَأخُذْ ولم نتَلبَّسْ مِنها بقَتْلِ صاحبِ دمٍ معصومٍ ولا بأخْذِ مالٍ مِن غيرِ حقِّه، وقد أخبَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم أبا ذَرٍّ في حَديثٍ آخَرَ عن مِثلِ هذه الفِتَنِ وأمَرَ أن يَلزَمَ الرَّجلُ بيتَه ولا يَشترِكَ في القَتلِ، وأن يَستسلِمَ لِمَن أراد أن يَقتُلَه حتَّى يَحمِلَ القاتلُ كلَّ الإثمِ والذَّنبِ.
وفي الحديثِ: التَّحذيرُ مِن الفِتَنِ الَّتي تَكونُ قبلَ قيامِ السَّاعةِ.
وفيه: أنَّ السَّلامةَ مِن فِتَنِ آخِرِ الزَّمانِ تَكونُ بالتَّمسُّكِ بأوامِرِ اللهِ ورسولِه؛ بعَدمِ الاشتِراكِ في قَتْلِ النَّاسِ .