باب التمتع والإقران والإفراد بالحج، وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدي
بطاقات دعوية
عن أبي شهاب قال: قدمت متمتعا مكة بعمرة، فدخلنا قبل التروية بثلاثة أيام، فقال لي أناس من أهل مكة: تصير الآن حجتك مكية (21)، فدخلت على عطاء أستفتيه؟ فقال: حدثني جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه حج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم ساق البدن معه وقد أهلوا (وفي طريق: ونحن نقول: لبيك اللهم، لبيك 2/ 153) بالحج مفردا، فقال لهم:
"أحلوا من إحرامكم بطواف البيت وبين الصفا والمروة، وقصروا، ثم أقيموا حلالا، حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج، واجعلوا التي قدمتم بها متعة".
فقالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟ فقال:
"افعلوا ما أمرتكم، فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم، ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله". ففعلوا
التَّمتُّعُ في الحجِّ هو أنْ يُحْرِمَ الحاجُّ بالعُمْرَةِ في أشهُرِ الحَجِّ، ثمَّ يَحِلَّ منها، ثم يُحْرِمَ بالحَجِّ مِن عامِه، فإذا قدِمَ مكَّةَ في أشهُرِ الحجِّ واعتَمَر وانْتَهى مِن عُمرتِه، فله أنْ يَتحلَّلَ مِن إحرامِه، ويَتمتَّعَ بكلِّ ما هو حلالٌ حتَّى تبدَأَ مَناسِكُ الحجِّ.
وفي هذا الحديثِ يَرْوي التابعيُّ أبُو شِهابٍ عبدُ ربِّه بْنُ نافعٍ أنَّه قَدِمَ إلى مكَّةَ مُتَمَتِّعًا بعُمْرةٍ وأهَلَّ بذلك، فوَصَلوا مكَّةَ ودَخَلوها قَبْلَ يومِ التَّرْوِيَةِ -وهو اليومُ الثَّامِنُ مِن ذي الحِجَّةِ- بثَلَاثةِ أيَّامٍ، وسُمِّيَ يومُ التَّرويةِ بذلك؛ لأنَّ الحُجَّاجَ كانوا يَرْتَوُونَ فيه مِن الماءِ لِما بعْدَه، أي: يَستَقُون ويَسْقُون إبِلَهم فيه، استِعدادًا للوُقوفِ يومَ عرَفةَ، فَقالَ له بعضُ الناسِ مِن أهْلِ مَكَّةَ: تَصِيرُ الآنَ حَجَّتُكَ مَكِّيَّةً، حيثُ تَفوتُك فَضيلةُ الإحرامِ مِن المِيقاتِ، فتُشْبِهُ في ذلك حَجَّةَ أهلِ مكَّةَ الذين لا يُحرِمون مِن مِيقاتٍ مُعيَّنٍ، بلْ يُحرِمون للحجِّ مِن مَكانِهم، فذَهَبَ أبو شِهابٍ إلى التابعيِّ عَطاءِ بنِ أبي رَباحٍ لِيَسأَلَه في ذلك ويَسْتفتيهِ، فحَدَّثَه أنَّ جَابِرَ بنَ عبدِ الله رَضيَ اللهُ عنهما أخْبَرَهُ أنَّه حجَّ مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يومَ ساقَ البُدْنَ معَه مِن المدينةِ إلى مَكَّةَ في حَجَّةِ الوَداعِ في السَّنةِ العاشرةِ مِن الهجرةِ، والبُدْنُ يُقصَدُ بها الهَدْيُ، والهدْيُ: اسمٌ لِما يُهدَى ويُذبَحُ في الحرَمِ مِن الإبلِ والبقَرِ والغنَمِ والمَعْزِ، وقد أهَلُّوا بالحَجِّ مُفرَدًا، أي: أَحرَموا مُفرِدينَ بالحَجِّ، والمرادُ بالإهلالِ هنا: قَصْدُ النِّيَّةِ في الإحرامِ، وهو في الأصلِ رفْعُ الصَّوتِ بالتَّلبيةِ، فأمَرَهم النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عِندَ قُدومِهم إلى مَكَّةَ أنْ يَحِلُّوا مِن إحرامِهِم، فيَفسَخوا الحَجَّ إلى العُمرةِ، ويَتحلَّلوا مِن عُمرَتِهم بالطَّوافِ والسَّعيِ والتَّقصيرِ، ثمَّ يُقيموا حَلالًا، يَحِلُّ لهُم كُلُّ شَيءٍ حتَّى المُعاشَرةُ والجِماعُ للنِّساءِ، حتَّى إذا كانَ يومُ التَّرويةِ وهو اليومُ الثامِنُ مِن ذي الحِجَّةِ، فعلَيهم أنْ يُهِلُّوا، أي: يُحرِموا بالحَجِّ، ويَتَوجَّهوا إلى عَرَفَةَ، ويَجعَلوا الأفعال الَّتي قَدِموا بها تَمتُّعًا بالعُمرةِ.
فسَأَل الصَّحابةُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: كيفَ يَجعَلون نُسكَهم الأوَّلَ عُمرةً ومُتْعَةً بها وهم قدْ أحْرَموا بنِيةِ الحَجَّ؟ فأمَرَهم أنْ يَفعَلوا ما أمَرَهم به، وأخْبَرَهم أنَّه لَولا أنَّه ساقَ الهَديَ لفَعَلَ مِثلَ الَّذي أمَرَهُم به، وفَسَخَ الحَجَّ إلى العُمرةِ، ولكِن ذلك لا يَحِلُّ له ولا يَحِلُّ له فِعلُ شَيءٍ مِن مَحظوراتِ الإحرامِ حتَّى يَصِلَ الهدْيُ إلى المَكانِ الَّذي يُنحَرُ فيه بِمِنًى يومَ النَّحرِ في العاشرِ مِن ذي الحِجَّةِ؛ فاستجابَ الصحابةُ رَضيَ اللهُ عنهم لأمْرِ النبيِّ على الفورِ وفعَلوا ما أمَرَهم به.
وبذلك أبطَلَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عاداتِ الجاهليَّةِ التي كانتْ تُحرِّمُ العُمرةَ في أشهُرِ الحجِّ، وأقَرَّ شَريعةَ الإسلامِ وما فيها مِن التَّوسعةِ في أُمورِ الحجِّ والعُمرةِ.
وفي الحديثِ: مَشروعيَّةُ التَّمتُّعِ بالعُمرةِ في أشهُرِ الحجِّ.
وفيه: طاعةُ الصَّحابةِ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.