باب الرخصة للحادة أن تمتشط بالسدر 3
سنن النسائي
أخبرنا محمد بن معدان بن عيسى بن معدان، قال: حدثنا ابن أعين، قال: حدثنا زهير بن معاوية، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن حميد بن نافع، مولى الأنصار، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة: أن امرأة من قريش جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد خفت على عينها وهي تريد الكحل، فقال: «قد كانت إحداكن ترمي بالبعرة على رأس الحول، وإنما هي أربعة أشهر وعشرا» فقلت لزينب: ما رأس الحول؟ قالت: «كانت المرأة في الجاهلية إذا هلك زوجها، عمدت إلى شر بيت لها، فجلست فيه حتى إذا مرت بها سنة خرجت فرمت وراءها ببعرة»
لقدْ ضَبطَتِ الشَّريعةُ الإسلاميَّةُ الغرَّاءُ كلَّ أُمورِ الحَياةِ؛ ففي كُلِّ شَأنٍ ومَرحلةٍ في الحَياةِ أحكامٌ؛ فجُعِلَ لِلحيِّ أحكامٌ، وللمَيِّتِ أحكامٌ، ولِأهلِه أحكامٌ علَيهم أنْ يَقوموا بها
وفي هذا الحَديثِ تَحكي أمُّ المُؤمِنينَ أُمُّ سَلَمةَ رضي اللَّه عنها، أنَّ امرَأةً -اسمُها عاتِكَةُ- تُوفِّي زَوجُها -وهو المُغيرةُ المَخزوميُّ- فَمَرِضَتْ عَيناها أثناءَ عِدَّتِها، وخافوا أنْ يَتَضاعَفَ مَرَضُها، فأسْتَأذنوا رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أنْ تَكتَحِلَ، فنهاها صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الكُحْلِ في مُدَّةِ العِدَّةِ، ثمَّ قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «قَد كانَتْ إحداكُنَّ» يقصِدُ بذلك فترةَ الجاهِلِيَّةِ وما كانت عليه المرأةُ إذا مات عنها زَوجُها، «تَمكُثُ في شَرِّ أَحْلاسِها» جَمعُ حِلسٍ، وَهوَ ما يُفرَشُ ليُجْلَس عليه، «أو شَرِّ بَيْتِها» شكٌّ من أحَدِ رُواةِ الحديثِ، أي: تَبقى سَنةً كامِلةً مُبتَعِدةً عَن الزِّينةِ، لا تَلْبَسُ إلَّا أردَأَ ثَيابِها، وتجلِسُ في أسوَأِ مَكانٍ في البيتِ، فَإذا انقَضَتْ سَنةٌ مِن وَفاةٍ زَوْجِها تَرَصَّدَتْ كَلْبًا يَمُرُّ بها، فَرَمَتْ بِبَعرةٍ -وهي مخلَّفاتُ البهائِمِ بعد أن تَيبَسَ وتَجِفَّ-؛ لِتُعلِنَ أنَّ إحْدادَ سَنةٍ عَلى زَوجِها أهوَنُ عَلَيها مِن رَميِ تِلكَ البَعْرةِ، ثم تَخرُجُ مِن إحْدادِها. وقيل: فيه إشارةٌ إلى أنها رمت العِدَّةَ رَميَ البَعرةِ
وفي ذِكرِ الجاهِلِيَّةِ إشارةٌ إلى أنَّ الحُكمَ في الإسلامِ صار بخلافِه في المدَّةِ والفِعلِ: رَميِ البَعرةِ وغَيرِه، وتقديرُ عِدَّةِ المتوفَّى عنها زوجُها بالحَولِ استمَرَّ في أوَّلِ الإسلامِ، كما جاء في قَولِه تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240]، ثم نُسِخَ بالآيةِ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]
ثم أكَّد النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهْيَه، وأنَّه لا يَجوزُ لَها التزيُّنُ -ومنه الكُحلُ- حَتَّى تَمضيَ مُدَّةُ الإحْدادِ الكامِلةُ
ثم تروي أمُّ المُؤمِنينَ أُمُّ حَبيبةَ رَمْلةُ بِنتُ أبي سُفيانَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّها سَمِعَتِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: «لا يَحِلُّ لِامرَأةٍ مُسلِمةٍ تُؤمِنُ بِاللَّهِ واليَوم الآخِر»، وهذا نفيٌ بمعنى النَّهيِ على سَبيلِ التأكيدِ، وخَصَّ ذلِك بالمُؤمنةِ؛ لأنَّ مَنْ كانتْ تُؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ لا تَأتي المَناهيَ ولا تُخالِفُ الأوامِرَ، وكأنَّه تَلميحٌ بالعِقابِ مِنَ اللهِ لمَن خالفَتْ هذا الأمرَ. «أن تُحِدَّ»، أي: تَتْرُكَ الزِّينةَ مِن مَلْبَسٍ وغَيرِه، على ميِّتٍ أيًّا كان؛ والدًا أو أخًا أو ابنًا أو أيَّ قريبٍ، «فَوقَ ثَلاثةِ أيَّامٍ»، وكأنَّ هذا القَدْرَ أُبيحَ لأجْلِ حَظِّ النَّفسِ ومُراعاتِها وغَلَبةِ الطِّباعِ البَشَريَّةِ، «إلَّا على زَوْجِها» -سواءٌ المدخولُ بها وغيرُها- أربَعةَ أشهُرٍ وعَشرةَ أيَّامٍ بليالِيها، وهذا مِصداقٌ لِقَولِ اللهِ تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]؛ وذلك إذا لم يكُنْ بها حَملٌ، وإلَّا فإنَّ عِدَّتَها وَضعُ حَمْلِها، كما في قَولِه تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، وما ورد في الصَّحيحينِ عن أمِّ سَلَمةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: «إِنَّ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةَ نُفِسَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ، وَإِنَّهَا ذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَأَمَرَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ»
وهذا كلُّه لإظهارِ قَدْرِ الزَّوجِ والحُزنِ عليه، حتَّى تَنقضيَ العِدَّةُ، وحتَّى لا يَطمَعَ فيها أحدٌ
وفي الحَديثِ: بيانُ قِيمةِ الزَّوجِ ومكانتِه