باب الصناعات 1

سنن ابن ماجه

باب الصناعات 1

 حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد القرشي، عن جده، عن سعيد بن أبي أحيحة
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بعث الله نبيا إلاراعي غنم" قال له أصحابه: وأنت يا رسول الله! قال: "وأنا، كنت أرعاها لأهل مكة بالقراريط" (1).

بعَث اللهُ سبحانَه الأنبياءَ مُبشِّرينَ ومُنذِرين، ولَمَّا كانت الرِّسالاتُ تَتطلَّبُ إعدادَ الرُّسلِ وتأهيلَهم قبلَ تَحمُّلِها؛ فإنَّ اللهَ سبحانه علَّمَهم وربَّاهم بمُختَلِفِ الوسائلِ، ومِن ذلك رَعْيُ الأغنامِ؛ للتَّعوُّدِ على الصَّبرِ والشَّفقةِ والرَّحمةِ، وجَمْعِ المتفرِّقِ، وغيرِ ذلك مِن المعاني.
وفي هذا الحديثِ يقولُ أبو هُريرةَ رَضِي اللهُ عنه: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "ما بعَث اللهُ نبيًّا إلَّا راعِيَ غنَمٍ، قال له أصحابُه: وأنتَ يا رسولَ اللهِ؟"، أي: أنت أيضًا رعَيْتَها؟ فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "وأنا، كنتُ أرْعاها لأهلِ مكَّةَ بالقَراريطِ- قال سُويدٌ: يعني: كلُّ شاةٍ بقيراطٍ-"، وتفسيرُ سُويدِ بنِ سعيدٍ أحَدِ رُواةِ هذا الحديثِ يَدُلُّ على أنَّ القيراطَ نوعٌ مِن النَّقدِ، أو هو جزءٌ مِن الدَّراهمِ والدَّنانيرِ، وقيل: هو مِن أجزاءِ الدِّينارِ، وهو نِصفُ عُشْرِه في أكثَرِ البلادِ. وأهلُ الشَّامِ يَجعَلونه جزءًا مِن أربعةٍ وعِشرينَ، ولكنْ قال بعضُ العلماءِ: إنَّ القراريطَ هنا اسمٌ لِمكانٍ في مكَّةَ قُرْبَ جِيادٍ، كان يَرْعى فيه النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم الأغنامَ، وقال بعضُ العلماءِ: لا مانِعَ مِن أن يكونَ المعنى أنَّه كان يَرْعى بالأجرةِ لأهلِ مكَّةَ في أيِّ مكانٍ فيها.
وقيل: الحِكْمةُ في إلهامِ الأنبياءِ مِن رعْيِ الغنَمِ قبلَ النُّبوَّةِ أن يَحصُلَ لهم التَّمرُّنُ برَعْيِها على ما يُكلَّفون به مِن القيامِ بأمرِ أمَّتِهم؛ ولأنَّ في مُخالَطتِها ما يَحصُلُ لهم به الحِلْمُ والشَّفقةُ؛ لأنَّهم إذا صبَروا على رعْيِها وجَمْعِها بعدَ تفَرُّقِها في الْمَرْعى ونَقْلها مِن مسرَحٍ إلى مسرَحٍ، ودَفْعِ عدُوِّها مِن السِّباعِ والوحوشِ والسُّرَّاقِ، وعَلِموا اختلافَ طِباعِها وشِدَّةَ تَفرُّقِها، مع ضَعْفِها واحتياجِها إلى المعاهَدةِ أَلِفوا مِن ذلك الصَّبرَ على الأمَّةِ، وعَرَفوا اختِلافَ طِباعِها وتَفاوُتَ عُقولِها، فجَبَروا كَسْرَها ورَفَقوا بضَعيفِها، وأحسَنوا التَّعاهُدَ لها، فيكونُ تَحمُّلُهم لِمَشقَّةِ ذلك أسهَلَ ممَّا لو كُلِّفوا القيامَ بذلك مِن أوَّلِ وهْلةٍ؛ لِما يَحصُلُ لهم مِن التَّدريجِ على ذلك برَعْيِ الغنَمِ، وخُصَّتِ الغنمُ بذلك لكونِها أضعَفَ مِن غيرِها؛ ولأنَّ تَفرُّقَها أكثرُ مِن تفرُّقِ الإبِلِ والبقَرِ؛ لإمكانِ ضبْطِ الإبلِ والبقَرِ بالرَّبْطِ دونَها في العادةِ المألوفةِ، ومع أكثَريَّةِ تفَرُّقِها فهي أسرَعُ انقِيادًا مِن غيرِها.
وفي الحديثِ: بيانُ تربيةِ اللهِ لأنبيائِه، وإعدادِهم لتَحمُّلِ الرِّسالاتِ.
وفيه: بيانُ تواضُعِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم لربِّه، والتَّصريحُ بمِنَّتِه عليه وعلى إخوانِه من الأنبياءِ صلَواتُ اللهِ وسلامُه عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ.