باب: الكلام الذي ينعقد به النكاح
سنن النسائي
أخبرنا محمد بن منصور، عن سفيان، قال: سمعت أبا حازم، يقول: سمعت سهل بن سعد، يقول: إني لفي القوم عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقامت امرأة، فقالت: يا رسول الله، إنها قد وهبت نفسها لك، فرأ فيها رأيك، فسكت، فلم يجبها النبي صلى الله عليه وسلم بشيء، ثم قامت، فقال: يا رسول الله، إنها قد وهبت نفسها لك، فرأ فيها رأيك، فقام رجل، فقال: زوجنيها يا رسول الله، قال: «هل معك شيء؟» قال: لا، قال: «اذهب فاطلب ولو خاتما من حديد»، فذهب فطلب، ثم جاء، فقال: لم أجد شيئا، ولا خاتما من حديد، قال: «هل معك من القرآن شيء؟» قال: نعم، معي سورة كذا وسورة كذا، قال: «قد أنكحتكها على ما معك من القرآن»
هِبةُ المرأةِ نفْسَها: هي أنْ تَتزوَّجَ الرَّجُلَ بِلا مهرٍ، وقد أحَلَّ اللهُ سُبحانَه ذلك لنبيِّه خاصةً مِن دونِ المؤمِنينَ؛ قال تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]
وفي هذا الحديثِ يروي سَهلُ بنُ سَعدٍ السَّاعديُّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ امرأةً جاءتِ لِتَهَبَ نَفْسَها لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فوقفَتْ أمامَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طَويلًا، فنظَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليها وصوَّبَ، أي: خفَضَ رأسَه، فلمَّا طالَ قيامُها بيْن يدَيْه ولم يَرُدَّ عليها، قال رجُلٌ: «زوِّجِنيها إنْ لم يكنْ لك بها حاجةٌ»، يعني: إنْ لم تُرِدْ زَواجَها، فسأله النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هلْ تَملِكُ شَيئًا يكونُ صَداقَها ومَهرَها؟ فنفى الرَّجُلُ امتلاكَه للمالِ، فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «انظرْ» فيما عندك، فابحثْ عَن شَيءٍ تَدفَعُه مَهْرًا لها، فذهب وبحَثَ فرجَعَ، وقال: لم أجِدْ شيئًا، فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «الْتَمِسْ ولو خاتمًا مِن حَديدٍ»، يعني: اذْهبْ فأْتِ بأيِّ شَيءٍ، ولو خاتمًا مِن حديدٍ، فذَهَبَ الرَّجلُ وبحَث فيما عنده ثُمَّ أتى، وقال: إنَّه لا يَملِكُ حتَّى الخاتمَ، ولم يكُنْ عليه سِوى إزارٍ يستُرُ به نِصفَ جَسَدِه من الأسفَلِ، فقالَ لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أُصدِقُها إزاري»، أي: أُعْطِيها إِزاري مهرًا، فرفض ذلك النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّه إنْ لِبسَتْه المرأةُ لم يكُنْ عليكَ ثَوبٌ، وإنْ لِبْستَهُ أنتَ لم يكنْ عليها ثَوبٌ، فتَراجَعَ الرَّجلُ وجلَسَ، فلمَّا رآهُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذاهبًا دَعاهُ، وقال له: «ما مَعكَ مِنَ القرآنِ؟» أي: ما تَحفَظُ مِنه؟ فذَكَرَ الرَّجلُ له ما يَحفَظُ مِنَ السُّورِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «قدْ مَلَّكتُكها بما معكَ مِنَ القرآنِ»، يعني زَوَّجْتُها لك بما تَحفظُ مِنَ القرآنِ
وفي الحَديثِ: انعِقادُ النِّكاحِ بغَيرِ لَفظِ النِّكاحِ والتَّزويجِ
وفيه: إنكاحُ المُعسِرِ، وأنَّ الكفاءةَ إنَّما هي في الدِّينِ لا في المالِ، وأنَّه لا حَدَّ لأقلِّ المَهرِ
وفيه: أنَّ الإمام يُزوِّجُ مَن ليس لها ولِيٌّ خاصٌّ لِمَنْ يَراه كُفؤًا لها، بشَرْطِ رِضاها
وفيه: إكرامُ حاملِ القرآنِ، حيث زوَّج النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المرأةَ للرَّجلِ؛ لأجْلِ كونِه حافظًا للقرآنِ أو لبَعضِه. ليعلِّم المرأةَ ما حفِظه من القرآن، ويكون تعلِيمُه ما حفظه من القرآن مهراً لها
وفيه: المُبالَغةُ في تَيسيرِ أمْرِ النِّكاحِ
وفيه: دليلٌ على نَظَرِ كبيرِ القَومِ في مصالحِهم، وهدايتِه إيَّاهم إلى ما فيه الرِّفقُ بهم