باب النهي عن الخلاء على قارعة الطريق 1

سنن ابن ماجه

باب النهي عن الخلاء على قارعة الطريق 1

حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، عن زهير، قال: قال سالم: سمعت الحسن يقول:
حدثنا جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إياكم والتعريس على جواد الطريق، والصلاة عليها، فإنها مأوى الحيات والسباع، وقضاء الحاجة عليها، فإنها من الملاعن" (1).

الرِّفقُ في الأُمورِ كُلِّها مِن أهمِّ ما يَنبغِي على المُسلِمِ مُراعاتُه، والجَزاءُ عليه جَميلٌ ومَحمودٌ، وبِه يُدرِكُ الإنسانُ ما لا يُدرِكُه بالشِّدَّةِ.

وفي هذا الحَديثِ يَقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "إذا سِرتُم في الخِصبِ"، أي: في وَقتٍ ومَكانٍ خَصيبٍ، وفيه ماءٌ وأعشابٌ ومَرعًى، "فأمْكِنوا الرِّكابَ أسنانَها"؛ لِتأكُلَ وتَطعَمَ بأسنانِها مِنَ الأعشابِ والمَرعى "ولا تَجاوَزوا المَنازِلَ" وفي رِوايةٍ: "فنَزِّلوها مَنازِلَها" والمَقصودُ عَدَمُ مُجاوَزةِ الحَدِّ في مُعامَلةِ الدَّوابِّ بمَعرِفةِ مَنزِلَتِها وقَدْرِها في خِدمَتِكم؛ فعامِلوها بما فيه صَلاحُها، مِن غَيرِ عُنفٍ عليها، ولا تَقصيرٍ عن حاجَتِكم، "وإذا سِرتُم في الجَدبِ" وهو الوَقتُ والمَكانُ الذي لا مَرعى فيه ولا ماءَ "فاستَجِدُّوا"، فأسرِعوا في السَّيرِ قَبلَ ضَعفِ الدَّوابِّ؛ لِعَدمِ وُجودِ مَرعًى، وهذا بخِلافِ مَعنى الرِّفقِ بها؛ لِأنَّه إنَّما شُرِعَ الرِّفقُ مع وُجودِ الخِصبِ والأمانِ، وعَدَمِ الأسبابِ المُوجِبةِ لِلتَّعجيلِ والإسراعِ، "وعليكم بالدُّلَجِ" وهو السَّفَرُ أوَّلَ اللَّيلِ، "فإنَّ الأرضَ تُطوى باللَّيلِ"، أي: تُقطَعُ المَسافاتُ لَيلًا أسرَعَ ممَّا تُقطَعُ نَهارًا، وإنَّها تُقرَّبُ مَسافَتُها بتَيسيرِ المَشيِ، وقَطعِ ما لا يُرَى مِنها، مع ما في ذلك مِنَ اعتِدالِ الجَوِّ، بعَكسِ النَّهارِ، الذي تَشتَدُّ حَرارَتُه؛ فيَكونُ أكثَرَ تَعَبًا، وخُصوصًا لِمَن يُسافِرُ في الصَّحراءِ، "وإذا تَغوَّلتْ لكمُ الغِيلانُ" وهي جِنسٌ مِنَ الجِنِّ والشَّياطينِ، كانتِ العَرَبُ تَزعُمُ أنَّ الغُولَ في الفَلاةِ يَتَراءى لِلناسِ، فيَتغَوَّلُ تَغوُّلًا، أي: يَتلَوَّنُ تَلوُّنًا في صُوَرٍ شَتَّى، ويُغَوِّلُهم، أي: يُضِلُّهم عنِ الطَّريقِ ويُهلِكُهم، "فبادِروا بالأذانِ"؛ لِأنَّ الأذانَ يَطرُدُهم ويُخوِّفُهم، فادفَعوا شَرَّها بذِكرِ اللهِ تَعالى "وإيَّاكم والصَّلاةَ على جَوادِّ الطَّريقِ" وهذا تَحذيرٌ مِنَ الصَّلاةِ في هذه الأماكِنِ، والجَوادُّ جَمعُ جادَّةٍ، وهي مُعظَمُ الطَّريقِ، ووَسَطُه، "والنُّزولَ عليها" وفي رِوايةِ أبي هُرَيرةَ عِندَ مُسلِمٍ: "وإذا عَرَّسْتُم باللَّيلِ، فاجتَنِبوا الطَّريقَ" والمُرادُ: النَّهيُ عن الاستِراحةِ والنُّزولِ لِلنَّومِ فيه، ثم بَيَّنَ السَّبَبَ فقال "فإنَّها مأوى الحَيَّاتِ والسِّباعِ" فهو مَكانٌ لِلحَيواناتِ المُفتَرِسةِ التي تَسرَحُ باللَّيلِ، ومَكانٌ لِلهَوامِّ مِنَ الثَّعابينِ والحَيَّاتِ التي رُبَّما يَصِلُ أذاها لِلإنسانِ، وقيل: تَطرُقُ فيها الحَشَراتُ وذواتُ السُّمومِ والسِّباعُ؛ لِتَلتقِطَ ما يَسقُطُ مِنَ المارَّةِ، "وقَضاءَ الحاجةِ" بمَعنى وأُحذِّرُكم مِن قَضاءِ الحاجةِ في وَسَطِ الطَّريقِ؛ مِنَ البَولِ أوِ الغائِطِ "فإنَّها المَلاعِنُ"، أي: الأمكِنةُ الجالِبةُ لِلَّعنِ لِمَن يَفعَلُ ذلك فيها؛ فيَلعَنُه مَن يَطَؤُها بسبَبِ كَثرةِ حاجةِ النَّاسِ إليها وتَأذِّيهم بما فيها مِن بَولٍ أو غائِطٍ، وقد بَيَّنتْ أحاديثُ أُخرى أنَّه يُلحَقُ بذلك مَنابِعُ الماءِ ومَوارِدُه، وأماكِنُ الظِّلِّ، وتَحتَ الأشجارِ، فلا يُبالُ فيها ولا يُتغَوَّطُ؛ لِحاجةِ النَّاسِ إليها.

وفي الحَديثِ: مُراعاةُ الشَّرعِ لِمَصالِحِ النَّاسِ في حِفظِ الطُّرقاتِ، والنَّهيُ عن تَدنيسِها.

وفيه: الحَثُّ على الرِّفقِ بالحَيَوانِ. وفيه: مُراعاةُ حَقِّ الطَّريقِ، وعَدَمِ قَطعِه على المارَّةِ.