باب تحد المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا
بطاقات دعوية
عن زينب ابنة أبى سلمة هذه الأحاديث الثلاثة:
قالت زينب: دخلت على أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حين توفى أبوها أبو سفيان بن حرب فدعت (وفي رواية: لما نعي أبي سفيان من الشام؛ دعت 2/ 78 - 79) أم حبيبة بطيب فيه صفرة؛ خلوق أو غيره [في اليوم الثالث 2/ 79]، فدهنت منه جارية، ثم مست بعارضيها [وذراعيها]، ثم قالت: والله؛ ما لي بالطيب من حاجة؛ غير أنى سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج [فإنها تحد عليه] أربعة أشهر وعشرا.
قالت زينب: فدخلت على زينب ابنة جحش حين توفى أخوها، فدعت بطيب، فمست منه، ثم قالت: أما والله ما لي بالطيب من حاجة؛ غير أنى سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على المنبر: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال؛ إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا.
فقالت زينب: وسمعت أم سلمة تقول: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت (44) عينها، (وفي رواية: فخشوا على عينيها 6/ 186) أفتكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا [تكحل] (مرتين أو ثلاثا)؛ كل ذلك يقول: لا. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول». قال حميد: فقلت لزينب، وما ترمي بالبعرة على رأس الحول؟ فقالت زينب: كانت المرأة إذا توفى عنها زوجها؛ دخلت حفشا، ولبست شر ثيابها، ولم تمس طيبا حتى تمر بها سنة، ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طائر، فتفتض به، فقلما تفتض بشىء إلا مات، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمى، ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره (وفي رواية مرفوعا: قد كانت إحداكن تمكث في شر أحلاسها أو شر بيتها، فإذا كان حول فمر كلب رمت ببعرة، فلا حتي تمضي أربعة أشهر وعشر). سئل مالك رحمه الله: ما تفتض به؟ قال: تمسح به جلدها.
لقدْ ضَبطَتِ الشَّريعةُ الإسلاميَّةُ الغرَّاءُ كلَّ أُمورِ الحَياةِ؛ ففي كُلِّ شَأنٍ ومَرحلةٍ في الحَياةِ أحكامٌ؛ فجُعِلَ لِلحيِّ أحكامٌ، وللمَيتِ أحكامٌ، ولِأهلِه أحكامٌ علَيهم أنْ يَقوموا بها.
وفي هذا الحَديثِ تخبِرُ زَيْنبُ بِنتُ أبي سَلَمةَ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّها دخلَتَ على أمِّ المؤمنينَ أُمِّ حَبِيبةَ بنتُ أبي سُفْيانَ رَضيَ اللهُ عنهما لَمَّا بَلَغَها موتُ أبيها أبي سُفْيانَ، وقدْ تُوفِّيَ سنةَ إحدى وثلاثينَ، وقيل: سَنةَ اثنتَينِ، وقيل غيرُ ذلك، وله نحوُ تِسعينَ سَنةً، فقالَتْ أمُّ حَبيبةَ رَضيَ اللهُ عنهما: سَمِعتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: «لا يَحِلُّ لامرأةٍ تُؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ»، وهذا نفيٌ بمعنى النَّهيِ على سَبيلِ التأكيدِ، وخَصَّ ذلِك بالمُؤمنةِ؛ لأنَّ المُؤمِنَ هو الذي يَنتفِعُ به ويَنقادُ له؛ فمَن آمَن باللهِ تعالَى وبعِقابِه يومَ الميعادِ لا يَجترِئُ على نواهِيه، «تُحِدُّ على مَيتٍ» أيَّا كان والدًا أو أخًا أو ابنًا أو أيَّ قريبٍ «فَوقَ ثَلاثٍ» مِنَ اللَّيالي «إلَّا على زَوْجٍ»، أي: لكنِ الزوجُ تُحِدُّ عليه زَوجتُه -سواءٌ المدخولُ بها وغيرُها- «أربعةَ أشهُرٍ وعَشْرًا»، أي: وعَشرةَ أيَّامٍ بليالِيها. والإحدادُ: تركُ الزِّينةِ والطِّيبِ ونَحْوِهما، أو المرغِّباتِ في الخِطبةِ، وذلك إذا مات للمَرأةِ مَيتٌ، وعلَّق النَّهْيَ بالإيمانِ بالله عزَّ وجلَّ؛ لأنَّه هو الأساسُ، وذكَر الإيمانَ باليَومِ الآخِرِ؛ لأنَّه يَومُ الجزاءِ والحسابِ.
ومِن حِكمةِ الإحدادِ في عِدَّةِ الوَفاةِ دُونَ عِدَّةِ الطلاقِ: أنَّ الزِّينةَ والطِّيبَ يَدعوانِ إلى النِّكاحِ؛ فنُهِيتْ عنه ليكونَ الامتِناعُ مِن ذلك زاجرًا عن النِّكاحِ لكونِ الزوجِ ميِّتًا لا يَمنَعُ مُعتدتَه مِن النِّكاحِ ولا يُراعيه مَن يُريدُ أنْ يَنكِحَها، بخلافِ المطلِّقِ الحيِّ فإنَّه يُستغنَى بوُجودِه عن زاجرٍ آخَرَ. ومِن حِكمةِ جعْلِ مِدَّةِ الحِدادِ على الزَّوجِ أربعةَ أشهُرٍ وعَشرًا: لِمَا يَغلِبُ عليها مِن الحُزنِ؛ ولأنَّ الأربعةَ فيها يُنفَخُ الرُّوحُ في الوَلدِ إنْ وُجِدَ، والعَشْرَ احتياطًا.
ثمَّ أخبرَتْ زَيْنبُ بِنتُ أبي سَلَمةَ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّها دخلَتْ على أمِّ المُؤمنِينَ زَيْنبَ بِنتِ جَحْشٍ رَضيَ اللهُ عنها حِينَ تُوُفِّيَ أخوها -قيل: هو عبدُ الله بنُ جَحشٍ. وقيل: إنَّما هو عُبَيدُ اللهِ الذي قد هاجَر الحَبَشةَ وتَنصَّرَ هناك ثمَّ مات. وقيل غيرُ ذلِك-، فدَعَتْ زَينبُ بنتُ جَحْشٍ رضيَ اللهُ عنها «بِطِيبٍ فمَسَّتْ» به شيئًا مِن جَسَدِها، «ثُمَّ قالتْ: ما لي بالطِّيبِ مِن حاجةٍ»، أي: إنَّها لم تُرِدْ وَضْعَه؛ وإنَّما فعلَتْ ذلك لأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نَهَى المرأةَ أن تُحِدَّ على غيرِ زَوجِها فوقَ ثلاثةِ أيامٍ؛ فلذلك أرادَتْ أن تُنْهِيَ حِدادَها على أخيها بوَضْعِ الطِّيبِ امتِثالًا لقَولِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فصرَّحتْ بأنَّها لم تتطيَّبْ لحاجةٍ؛ إشارةً إلى أنَّ آثارَ الحُزنِ باقيةٌ عِندَها، لكنَّها لم يَسَعْها إلَّا امتثالُ الأمْرِ واجتنابُ النهيِ.
وفي الحديثِ: فضْلُ زَيْنَبَ بنْتِ جَحْشٍ رَضيَ اللهُ عنها، ومُسارعتُها إلى امتِثالِ الأوامرِ واجتِنابِ النواهي حتَّى في أصْعَبِ الأحوالِ.