باب تخيير الرجل امرأته 1

بطاقات دعوية

باب تخيير الرجل امرأته 1

 عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال دخل أبو بكر - رضي الله عنه - يستأذن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم قال فأذن لأبي بكر - رضي الله عنه - فدخل ثم أقبل عمر - رضي الله عنه - فاستأذن فأذن له فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - جالسا حوله نساؤه واجما (4) ساكتا قال فقال لأقولن شيئا أضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال هن حولي كما ترى يسألنني النفقة فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها فقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها كلاهما يقول تسألن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ليس عنده قلن والله لا نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا أبدا ليس عنده ثم اعتزلهن شهرا أو تسعا وعشرين ثم نزلت عليه هذه الآية (يا أيها النبي قل لأزواجك) حتى بلغ (للمحسنات منكن أجرا عظيما) قال فبدأ بعائشة فقال يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمرا أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك قالت وما هو يا رسول الله فتلا عليها الآية قالت أفيك يا رسول الله أستشير أبوي بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت قال لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها أن الله تعالى لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ولكن بعثني معلما ميسرا. (م 4/ 187 - 188

كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم كَريمَ النَّفْسِ مع زَوجاتِه، وقدْ كانَ يُنفِقُ عليهِنَّ ممَّا آتاهُ اللهُ، ولكِنَّه كانَ كَثيرَ النَّفَقةِ في سَبيلِ اللهِ، وفي مَصالِحِ النَّاسِ، حتَّى إنَّه كانَ لا يُبقي إلَّا القَليلَ لِنَفْسِه وأهلِه، ممَّا تَرتَّبَ عليه بَعضُ ما يَقَعُ على الزَّوجاتِ مِنَ التَّضرُّرِ، ولكِنَّ اللهَ سُبحانَه خَيَّرهُنَّ بيْنَ الصَّبرِ على العَيشِ وبيْنَ الطَّلاقِ والفِراقِ بالمَعروفِ.
وفي هذا الحديثِ يَرْوي جابرُ بنُ عبدِ اللهِ رَضِي اللهُ عنهما أنَّ أبا بَكرٍ رَضِي اللهُ عنه دخَل يَستأذِنُ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ذاتَ مرَّةٍ، فوجَدَ النَّاسَ جالِسين بِبابِه لم يُؤذَنْ لأحدٍ منهم بالدُّخولِ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، ثمَّ أَذِن النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم لأبي بَكرٍ رَضِي اللهُ عنه، فدخَل عليه، ثمَّ أقبَل عُمرُ رَضِي اللهُ عنه وجاء إلى بَيتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، فاستأذَن ليَدخُلَ، فأَذِن له، فلمَّا دَخَل عمرُ رَضِي اللهُ عنه وَجَد النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم جالسًا وحوْلَه نساؤُه، وكان صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم قدِ اشتَدَّ حُزنُه حتَّى أمسَكَ عن الكلامِ، فقال عُمرُ رَضِي اللهُ عنه في نفْسِه -وقيل: إنَّ القائلَ هو أبو بَكرٍ رَضِي اللهُ عنه-: «لأَقولَنَّ شيئًا أُضحِكُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، فقال: يا رسولَ اللهِ، لو رأيْتَ»، أي: لو عَلِمْتَ، أنَّ زَوجَتي بنتَ خارجةَ، سَألَتْني وطَلَبت منِّي الزِّيادةَ في النَّفقةِ على العادةِ، أو فوْقَ الحاجةِ، فقُمْتُ إليها «فوجَأْتُ عُنقَها»، أي: ضَرَبْتُ عُنقَها بكَفِّي، فضَحِك صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم لتَشابُهِ حالِه مع حالِ عُمرَ، وقال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: «هنَّ» إشارةً إلى نِسائهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، يَجلِسْنَ «حَوْلي كما ترَى، يَسأَلْنَنِي النَّفقةَ»، ويَطلُبْنَ منِّي الزِّيادةَ في النَّفقةِ عن عادتِها، فلمَّا قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ذلك، قام أبو بكرٍ رَضِي اللهُ عنه إلى ابنتِه عائشةَ رَضِي اللهُ عنها ليَضرِبَ عُنقَها تأديبًا لها، وقام عُمرُ رَضِي اللهُ عنه إلى ابنتِه حَفصةَ رَضِي اللهُ عنها ليَضرِبَ عُنقَها تأديبًا لها، كِلاهما يَقولُ لبِنتِه: «تَسأَلْنَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ما ليْس عنده؟!»، وهذا تَوبيخٌ وتَأنيبٌ لَهُما على طلَبِ زِيادةِ النَّفقةِ، وهي لا تَتوفَّرُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، «فقُلْنَ: واللهِ لا نَسأَلُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم» بعْدَ هذا «شَيئًا أبدًا ليْس عنده»، وقدْ غَضِب النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم لذلك، فاعتزَل نِساءَه ثَلاثين أو تِسعًا وعِشرين يومًا، لم يَدخُلْ بيوتَ أزواجِه وامتنَعَ عنهنَّ، ثمَّ نزَلَ قولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28، 29]، ومعنى الآيتينِ: يا أيُّها النَّبيُّ، قلْ لأزواجِك حين طلَبْنَ منك التَّوسعةَ في النَّفقةِ، ولم يكُنْ عندك ما تُوسِّعُ به عليهنَّ: إنْ كُنتنَّ تُرِدْنَ الحياةَ الدُّنيا وما فيها مِن زِينةٍ، فتَعالَيْن إلَيَّ أُمتِّعْكُنَّ بما تُمَتَّعُ به المُطلَّقاتُ، وأُطَلِّقْكنَّ طَلاقًا لا إضرارَ فيه ولا إيذاءَ، وإنْ كُنتنَّ تُرِدْنَ رِضا اللهِ ورِضا رَسولِه، وتُرِدْنَ الجنَّةَ في الدَّارِ الآخِرةِ، فاصبِرْنَ على حالِكنَّ؛ فإنَّ اللهَ أعدَّ لمَن أحسَنَ منكنَّ بالصَّبرِ وحُسنِ العِشرةِ أجْرًا عظيمًا.
فبدَأَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم في التَّخييرِ بعائشةَ رَضِي اللهُ عنها؛ فَنادها وأخبَرَها أنَّه يُريدُ أنْ يُعرِضَ عليها أمرًا، وأنَّه يُحِبُّ ألَّا تتَعجَّلَ في جَوابِه مِن تلْقاءِ نفسِها، حتَّى تَأخُذَ رأْيَ أبوَيْها، ولعلَّ ذلك خوْفًا عليها مِن صِغَرِ سِنِّها المُقتضي إرادةَ زِينةِ الدُّنيا ألَّا تَختارَ الآخِرةَ، فسَألت النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم عن هذا الأمرِ، فتلَا عليها الآيةَ، فأسرَعَتْ في قَبولِها أنْ تكونَ مع رسولِ اللهِ، وقالت: «أفيكَ»، أي: في فِراقِك، أو في وِصالِك، أو في حَقِّك «يا رسولَ اللهِ أسْتَشيرُ أبوَيَّ؟!» وأخبَرَتْه أنَّها تَختارُ اللهَ ورسولَه والدَّارَ الآخرةَ، وطَلَبَت منه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ألَّا يُخبِرَ امرأةً مِن نِسائِه بالَّذي أجابتْ به؛ وذلِك غَيْرةً منها، وحِرْصًا على التَّفرُّدِ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، والاستكثارِ منه، فقال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: «لا تَسأَلُني امرأةٌ منهنَّ إلَّا أخبَرْتُها»؛ لأُعِينَها به على الاختيارِ، وعلَّل ذلك بأنَّ أنَّ اللهَ لم يَبعَثْه مُعنِّتًا، أي: مُوقِعًا أحدًا في أمرٍ شَديدٍ، والعَنَتُ: المشقَّةُ والإثمُ أيضًا، «ولا مُتعنِّتًا»، أي: طالبًا لَزَلَّةِ أحدٍ، «ولكنْ بَعَثَني مُعلِّمًا» للنَّاسِ الخيرَ، ومُسهِّلًا للأمرِ، ووَجهُ التَّيسيرِ في هذا: أنَّه إذا أخبَرَ بذلك اقْتَدى بعائشةَ رَضِي اللهُ عنها غيرُها مِن أزواجِه، وسهُلَ عليها اختيارُ اللهِ تعالَى، ورسولِه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، والدَّارِ الآخِرةِ.
وفي الحديثِ: أنَّ مِن هَدْيِه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم الاستئذانَ.
وفيه: تَأديبُ الرَّجلِ ولَدَه وإنْ كَبِرَ.
وفيه: زُهدُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم وتَقلُّلُه مِن الدُّنيا.
وفيه: أنَّ مِن فِعلِ الصَّحابةِ تَطييبَ نفْسِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم عندَ حُزنِه.
وفيه: فَضلُ أبي بَكرٍ وعُمرَ وعائشةَ رَضِي اللهُ عنهم.