باب ذهاب القرآن والعلم2
سنن ابن ماجه
حدثنا علي بن محمد، حدثنا أبو معاوية، عن أبي مالك الأشجعي، عن ربعي بن حراش
عن حذيفة بن اليمان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة. وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس، الشيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله، فنحن نقولها". فقال له صلة (1): ما تغني عنهم لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة، ثم ردها عليه ثلاثا، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة، فقال: يا صلة، تنجيهم من النار، ثلاثا (2)
في هذا الحديثِ يُخبِرُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بما يَكونُ مِن حالِ المسلِمين في آخِرِ الزَّمانِ، حيثُ يقولُ حُذيفَةُ بنُ اليَمانِ رَضي اللهُ عنه: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "يَدْرُسُ الإسلامُ"؛ مِن دَرَسَ الرَّسمُ دُروسًا: إذا عَفا وهلَك، والمرادُ: تَنْمَحي آثارُه وأقلامُه وأحكامُه، "كما يَدرُسُ وَشْيُ الثَّوبِ"، أي: كما يُمحَى نَقشُ الثَّوبِ المرسومُ فيه، "حتَّى لا يُدرى"، أي: لا يُعرف في ذلك الوقتِ، "ما صِيامٌ، ولا صَلاةٌ، ولا نسُكٌ، ولا صدَقةٌ، ولَيُسرى على كِتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ في ليلةٍ"، أي: يَذهَبُ باللَّيلِ، "فلا يَبْقى في الأرضِ مِنه آيةٌ"، أي: يَمْحوه اللهُ عزَّ وجلَّ مِن الكُتبِ وصُدورِ الرِّجالِ، "وتَبقى طَوائفُ"، أي: جَماعاتٌ، "مِن النَّاسِ: الشَّيخُ الكَبيرُ والعَجوزُ، يَقولون: أدرَكْنا آباءَنا"، أي: مِن المسلِمين "على هذه الكلِمةِ: لا إلَهَ إلَّا اللهُ؛ فنحن نقولُها"، أي: يُقلِّدون آباءَهم في ذِكرِهم لكلمَةِ التَّوحيدِ وترديدِها دون عِلمٍ أو عمَلٍ بمُقتَضَياتِها.
قال رِبعيُّ بنُ حِراشٍ- الرَّاوي عن حُذيفةَ رَضي اللهُ عنه-: "فقال له صِلَةُ" وصِلةُ هو ابنُ زُفرَ مِن كِبارِ التَّابعين: "ما تُغني عنهم لَا إلهَ إلَّا اللهُ، وهم لا يَدرون ما صَلاةٌ، ولا صيامٌ، ولا نسُكٌ، ولا صدَقةٌ؟"، أي: أيُّ شيءٍ تَنفعُهم كلمةُ التَّوحيدِ وهم لا يَعرِفون أحكامَ الدِّينِ ولا يُطبِّقونها؟ وهذا وكأنَّه يَستَنكِرُ أنْ يَنفَعَهم مجرَّدُ التَّوحيدِ، قال رِبعيٌّ: "فأعرَض عنه حُذيفةُ"، أي: لَم يُجِبْه في استِنْكارِه، "ثمَّ ردَّها عليه ثلاثًا"، أي: أعاد صِلَةُ السُّؤالَ على حُذيفةَ ثلاثَ مرَّاتٍ، "كلَّ ذلك يُعرِضُ عنه حُذيفَةُ، ثمَّ أقبَل عليه في الثَّالثةِ"، أي: أجاب حُذيفَةُ صِلَةَ في المرَّةِ الثَّالثةِ، "فقال: يا صِلَةُ، تُنْجيهم مِن النَّارِ؛ ثلاثًا"، أي: تُنْجيهم كلمةُ التَّوحيدِ مِن النَّارِ، وكرَّرَ ذلك ثلاثَ مرَّاتٍ تأكيدًا. وقد قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "مَن قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ دخَل الجنَّةَ"؛ أخرَجه الطَّبرانيُّ.
والمرادُ مِن الحديثِ: استِحْكامُ الجَهلِ ورَفْعُ العِلمِ ومَوتُ العُلماءِ في ذلك الوقتِ؛ بحيثُ لا يَبقى إلَّا الجَهْلُ الصِّرْفُ، ولا يَمنَعُ مِن ذلك وجودُ طائفةٍ مِن أهلِ العِلْمِ؛ لأنَّهم يَكونون حينَئذٍ مَغمورينَ في أولئك، والواقِعُ أنَّ الصِّفاتِ المَذْكورةَ وُجِدَتْ مَباديها مِن عهْدِ الصَّحابةِ، ثمَّ صارَتْ تَكثُرُ في بعضِ الأماكنِ دونَ بعضٍ.
وفي الحديثِ: علَمٌ مِن أعلامِ النُّبوَّةِ.