باب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم34-2
سنن الترمذى
حدثنا أحمد بن محمد بن موسى قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك قال: أخبرنا ليث بن سعد، وابن لهيعة، عن قيس بن الحجاج، ح وحدثنا عبد الله بن عبد الرحمن قال: أخبرنا أبو الوليد قال: حدثنا ليث بن سعد قال: حدثني قيس بن الحجاج، المعنى واحد، عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس، قال: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فقال: «يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف» هذا حديث حسن صحيح "
وفي هذا الحَديثِ يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم لِعَبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ: "يا غلامُ"، والغُلامُ هو الصَّبيُّ الصَّغيرُ الَّذي لم يَبلُغِ الحُلُمَ بَعدُ، "إنِّي أُعلِّمُك كَلِماتٍ"، أي: أُعلِّمُك أُمورًا وأشياءَ يَنفَعُك اللهُ بها، "احفَظِ اللهَ"، أي: احْفَظْ حُدودَه وحُقوقَه وأوامَرَه ونواهيَه، فاتَّقِ اللهَ في أوامِرِه ونَواهيه بحيثُ يَجِدُك في الطَّاعاتِ والقُرباتِ، ولا يَجِدُك في المعاصي والآثامِ، ومِن أعظمِ ما يُحافَظُ عليه الصَّلاةُ والطَّهارةُ التي هي مِفتاحُ الصَّلاةِ، وحِفظُ الرأسِ وما وعَى وهو يَتضمَّنُ حِفظَ السَّمعِ والبَصرِ واللِّسانِ مِن المُحرَّماتِ، وحفظُ البَطنِ وما حوَى، ويتَضمَّن حِفظَ القلبِ عن الإصرارِ على المحرَّماتِ، وكذلك مِنْ أعظمِ ما يَنبغي حِفْظُه مِن نواهي الله عزَّ وجلَّ: الفَرْجُ وأنْ يُحفَظ ولا يُوضَعُ إلَّا في حلالٍ، "يَحْفَظْك"، أي: إذا اتَّقيتَه وحَفِظتَه كان جَزاؤُك أن يَصونَك مِن الشُّرورِ والموبِقاتِ ويَحفَظَك في نَفسِك وأهلِك ومالِك ودِينِك ودُنياك، ويَحفظَك مِن مكارِهِ الدُّنيا والآخِرَة؛ فحِفظُ اللهِ لعَبدِه نوعان؛ أحَدُهما: حِفظُه له في مَصالِحِ دُنياه، كحِفْظِه في بدَنِه وولَدِه، وأهلِه ومالِه؛ قال اللهُ عزَّ وجلَّ: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِن أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11]؛ فمَن حَفِظ اللهَ في صِباه وقوَّتِه، حَفِظه اللهُ في حالِ كِبَرِه وضَعْفِ قوَّتِه، ومتَّعه بسَمعِه وبصَرِه وحَوْلِه وقوَّتِه وعقلِه. النَّوعُ الثَّاني: حِفظُ اللهِ للعبدِ في دِينِه وإيمانِه، فيَحفَظُه في حَياتِه مِن الشُّبهاتِ المضلَّةِ، ومِن الشَّهَواتِ المحرَّمةِ، ويَحفَظُ عليه دِينَه عندَ موتِه، فيتوفَّاه على الإيمانِ، وعلى العكسِ من هذا؛ فمَن ضيَّع اللهَ ضيَّعه اللهُ، فضاع بينَ خلقِه، حتَّى يَدخُلَ عليه الضَّررُ والأذى ممَّن كان يَرْجو نفْعَه مِن أهلِه وغيرِهم.
"احفَظِ اللهَ"، أي: اتَّقِ اللهَ في الأوامِرِ والنَّواهي، والْزَمِ الطَّاعاتِ، ولا تَقرَبِ المعاصيَ، "تَجِدْه تُجاهَك"، والمعنى: أنَّك تَجِدُه حينَئذٍ كأنّه حاضرٌ تِلقاءَك وقُدَّامَك في مقام إحسانك وإيقانك وكمال إيمانك، كأنَّك تراه بحيثُ تُغْنَى بالكُلِّيَّةِ عن نظَرِك ما سِواه، وقيل: المعنى: إذا حَفِظْتَ طاعةَ اللهِ وجَدتَه يَحفَظُك ويَنصُرُك في مُهِمَّاتِك أينَما توجَّهتَ، ويُسهِّلُ لك الأمورَ الَّتي قصَدتَ، وقيل المعنى: تجِدُ عِنايتَه ورَأفتَه قَريبًا منك؛ يُراعيك في جَميعِ الحالاتِ، ويُنقِذُك مِن جميعِ المضَرَّاتِ.
"إذا سألتَ فاسأَلِ اللهَ"، أي: إذا أرَدتَ أن تَطلُبَ شيئًا، فلا تَطلُبْ إلَّا مِن اللهِ، "وإذا استَعنتَ فاستَعِنْ باللهِ"، أي: وإذا أردتَ العونَ فلا تَطلُبِ العونَ إلَّا مِن اللهِ ولا تَستَعِنْ إلَّا باللهِ، "واعْلَمْ"، كرَّرَ فِعلَ الأمْرِ زِيَادَةً في الحَثِّ عَلَى التَّوَجُّهِ إِلَى اللهِ تعالى "أنَّ الأُمَّةَ لو اجتَمَعَت"، أَيِ: اتَّفَقَتْ فَرْضًا وَتَقْدِيرًا "على أن يَنفَعوك بشيءٍ لم يَنفَعوك" أَيْ: لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ، "إلَّا بشيءٍ قد كتَبه اللهُ لك"، والمعنى: وَلْيَكُنْ عِندَك عِلمٌ ويقينٌ أنَّه لن يَكونَ إلَّا ما قدَّره اللهُ لك؛ فلن تُحصِّلَ مَنفَعةً إلَّا ما كتَبه الله لك، ولو اجتَمَع على مَنفَعتِك أهلُ الأرضِ جَميعًا، "وإنِ اجتَمَعوا على أن يَضُرُّوك بشيءٍ لم يَضُرُّوك إلَّا بشيءٍ قد كتَبه اللهُ عليك"، أي: وَلْيَكُنْ عِندَك عِلمٌ أيضًا أنَّك لن تَرى إلَّا ما قدَّره اللهُ عليك، فلَن يَبلُغَك ضُرٌّ إلَّا ما قدَّره اللهُ عليك، ولو اجتَمَع على ضُرِّك أهلُ الأرضِ جميعًا، وهذا مُتَّفِقٌ مع الحُكمِ المقرَّرِ في الاعتقادِ أنَّ اجتِماعَهم على إيصالِ النِّفعِ والضُّرِّ بدونِ مَشيئةِ اللهِ مِن المُحالِ، وخُلاصةُ المعنى أنَّ المطلوبَ مِنك أن تُوحِّدَ اللهَ في المطلَبِ والمهرَبِ، فهو الضَّارُّ النَّافعُ، والمعطي المانعُ.
"رُفِعَت الأقلامُ"، أي: كُتِبَت مَقاديرُ الخلائقِ جميعًا، ورُفِع القلمُ، فلا زِيادةَ ولا نُقْصانَ في كِتابَةِ الأحْكامِ، "وجَفَّتِ الصُّحفُ"، أي: جفَّت الصُّحفُ بما كتَبَته الأقلامُ فيها مِن مَقاديرِ الخلائقِ، فلا تَبْديلَ ولا تَغْييرَ، فكلُّ شيءٍ قد كُتِبَ في اللَّوحِ المحفوظِ؛ فعبَّر عن سبْقِ القضاءِ والقدَرِ برَفْعِ القلَمِ، وجَفافِ الصَّحيفةِ؛ تَشبيهًا بفراغِ الكاتبِ في الشَّاهدِ مِن كتابتِه، وهذا كلُّه مِن التَّربيةِ النَّبويَّةِ للأُمَّةِ على أن تتَعامَلَ بصِدقٍ مَع اللهِ، وأنْ تُراقِبَه في كلِّ أعمالِها، وألَّا تَخافَ غيرَه سُبحانه؛ فمِنْه النَّفعُ والضَّرُّ، وأن تُربِّيَ أطفالَها على هذه المفاهيمِ الطَّيِّبةِ فيَنشَؤوا ويَشِبُّوا عليها.
وهذا الحَديثُ أصلٌ عظيمٌ في مُراقبةِ اللهِ، ومُراعاةِ حقوقِه، وتَفويضِ الأُمورِ إليه، والتَّوكُّلِ عليه، وشُهودِ تَوحيدِه وتفرُّدِه، وعجْزِ الخلائقِ كلِّهم وافتقارِهم إليه وحدَه، وفيه أبلغُ ردٍّ على مَن اعتقَدَ النَّفعَ والضرَّ في غَيرِ الله مِن الأولياءِ والصَّالِحين وأهلِ القبورِ، أو سألَهم واستعانَ بِهم مِن دُونِ اللهِ تعالى.
وفي الحَديثِ: الحثُّ على حِفظِ اللهِ عزَّ وجلَّ في أوامِرِه ونَواهيه.
وفيه: الحثُّ على طلَبِ العونِ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ وحْدَه.