باب أن المستشار مؤتمن
سنن الترمذى
حدثنا أحمد بن منيع قال: حدثنا الحسن بن موسى قال: حدثنا شيبان، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المستشار مؤتمن». «هذا حديث حسن، وقد روى غير واحد عن شيبان بن عبد الرحمن النحوي، وشيبان هو صاحب كتاب وهو صحيح الحديث، ويكنى أبا معاوية»
هذا الحَديثُ مُختصَرٌ مِن حَديثٍ آخرَ، ولفظُه -كما عندَ التِّرمذيِّ- عن أبي هُريرةَ رضِيَ اللهُ عنه، قال: "خرَجَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في ساعةٍ لا يَخرُجُ فيها، ولا يَلقاهُ فيها أحدٌ"، أي: ليس مِن عادتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الخروجُ والظُّهورُ في ذلك الوقتِ، "فأتاهُ أبو بكرٍ، فقال: ما جاء بك يا أبا بكرٍ؟ فقال: خرَجْتُ ألْقَى رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأنظُرُ في وَجْهِه والتَّسليمَ عليه"، أي: كان خروجُ أبي بكرٍ رضِيَ اللهُ عنه رغبةً في لِقاءِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "فلم يَلْبَثْ"، أي: لم يمُرَّ وقتٌ كثيرٌ، "أنْ جاء عُمرُ، فقال: ما جاء بك يا عُمرُ؟ قال: الجوعُ يا رسولَ اللهِ"، أي: كان السَّببُ لخروجِ عمرَ طلَبَ الطَّعامِ، "فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: وأنا قد وجَدْتُ بعضَ ذلك"، أي: إنَّ سَببَ خُروجِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في ذلك الوقتِ كان الجوعَ، "فانطَلَقوا إلى منزلِ أبي الهيثمِ بنِ التَّيِّهانِ الأنصاريِّ -وكان رجُلًا كثيرَ النَّخلِ والشَّاءِ-"، فعَلوا ذلك مَظِنَّةَ أنْ يُطْعِمَهم ويَسُدَّ جوعَهم، "ولم يكُنْ له خَدَمٌ، فلم يَجِدوه"، وهذا إشارةٌ إلى أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لم يَجِدْ في المنزلِ إلَّا امرأتَه ليَسأَلَ عنه، "فقالوا لامرأتِه: أين صاحبُك؟" أي: زوجُك، "فقالت: انطلَقَ يَستعذِبُ لنا الماءَ"، أي: يأتي بماءٍ عَذْبٍ، وهو الطَّيِّبُ الَّذي لا مُلوحةَ فيه، "فلم يَلْبَثوا أنْ جاء أبو الهيثمِ بقِربةٍ يَزْعَبُها"، أي: يَحمِلُها ويَتدافَعُ بها لِثِقَلِها، فوضَعَ القِربةَ، "ثمَّ جاء يَلتزِمُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ"، أي: يُسلِّمُ عليه ويَضُمُّه إليه ويُعانِقُه؛ وذلك مِن حُبِّه الشَّديدِ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "ويَفْدِيه بأبيهِ وأُمِّه"، أي: يقولُ له: فِداك أبي وأُمِّي، ثمَّ انطلَقَ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وصاحبَيْه، "إلى حديقتِه"، أي: أرْضِه وبُستانِه، "فبسَطَ لهم بِساطًا"، أي: فِراشًا لِيَجْلِسوا عليه، ثمَّ انطلَقَ أبو الهيثمِ "إلى نخلةٍ، فجاء بقِنْوٍ فوضَعَه" للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ومَن معه، والقِنْوُ: غُصنُ النَّخيلِ بما يَحمِلُه مِن تمْرٍ، "فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أفلَا تنقَّيْتَ لنا مِن رُطَبِه؟"، أي: الَّذي طاب واسْتَوى، "فقال: يا رسولَ اللهِ، إنِّي أردْتُ أنْ تَخْتاروا -أو قال: تخيَّروا مِن رُطَبِه وبُسْرِه-"، والبُسْرُ: البلحُ قبْلَ أنْ يتحوَّلَ رُطبًا، "فأكَلوا وشَرِبوا مِن ذلك الماءِ"، أي: الماءِ العذْبِ الَّذي قد جاء به أبو الهيثمِ، "فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هذا والَّذي نفْسي بيَدِه"، أي: قاسمًا باللهِ عزَّ وجلَّ؛ وذلك لأنَّ اللهَ هو الَّذي يَملِكُ الأنفسَ، وكثيرًا ما كان يُقْسِمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بهذا القسَمِ، "مِن النَّعيمِ الَّذي تُسْأَلونَ عنه يومَ القِيامةِ" كما قال اللهُ عزَّ وجلَّ: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8]؛ "ظِلٌّ باردٌ"، أي: لا حَرَّ فيه، "ورُطَبٌ طيِّبٌ"، أي: تمْرٌ حُلوٌ قد نَضِجَ، "وماءٌ باردٌ"، والمعنى: أنَّ كلَّ شيءٍ مِن لذَّةِ الدُّنيا مِن النَّعيمِ يُسأَلُ عنه، والسُّؤالُ عنه يكونُ: هل قامَ العَبْدُ بحقِّ شُكرِه ومِنَّةِ اللهِ عليه فيه بنِعمتِه؟ "فانطلَقَ أبو الهَيثمِ لِيَصنَعَ لهم طَعامًا، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: لا تَذْبَحَنَّ ذاتَ دَرٍّ"، فقد أراد أبو الهيثمِ أنْ يَذبَحَ لهم شاةً، فنهاهُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن التي تَدُرُّ اللَّبنَ، "فذبَحَ لهم عَناقًا أو جَدْيًا"، والعَناقُ: الأنثى مِن أولادِ المعْزِ، والجَدْيُ ذَكَرُها، "فأَتَاهم بها فأكَلوا، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هلْ لك خادمٌ؟ قال: لا، قال: فإذا أتانا سبْيٌ فأْتِنا"، والسَّبْيُ: أسارى الحربِ، وقد أرادَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُعطِيَه خادمًا، "فأُتِيَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ برأْسينِ ليس معهما ثالثٌ"، أي: مِن العبيدِ، "فأتاهُ أبو الهيثمِ"، أي: كما أمَرَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِيُعطِيَه أحدَهم، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "اختَرْ منهما"، أي: خُذْ ما يُعجِبُك مِن العَبدينِ، "فقال أبو الهيثمِ: يا نَبِيَّ اللهِ، اختَرْ لي"، أي: إنَّه فوَّضَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُرجِّحَ له أحسَنَهما، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "إنَّ المُسْتشارَ" وهو الَّذي يُطلَبُ منه الرَّأيُ في الحادثةِ، "مُؤتمَنٌ"، أي: إنَّ المُستشارَ أمينٌ فيما يُسأَلُ مِن الأمورِ؛ فلا يَنْبغي أنْ يخونَ المُسْتشيرَ بكِتمانِ مَصلحتِه، ويُخلِصُ له النَّصيحةَ، فعليه أنْ يَتحرَّى له وجْهَ الصَّوابِ، ولا يُشِيرَ عليه إلَّا بما يَفعَلُه لنفْسِه لو كانت الحادثةُ معه، ثمَّ يَحفَظُ سِرَّه وما أخبَرَه به، وإنْ لم يجِدْ رأيًا فلا يتكلَّفُ ما لا يَعرِفُ صوابَه، وقد حذَّرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن الخِيانةِ في النَّصيحةِ كما في حديثِ الحَسنِ الذي رواه أبو داودَ: «ومَن أشارَ على أخيه بأمْرٍ يَعلَمُ أنَّ الرُّشْدَ في غَيرِه فقدْ خانَه». ثمَّ قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ له: "خُذْ هذا"، أي: أشار النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى أحدِ العَبْدينِ؛ "فإنِّي رأيْتُه يُصلِّي"، أي: إنَّ سببَ ترجيحِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ له ما رآهُ عليه مِن علاماتِ الصَّلاحِ، "واستَوصِ به مَعروفًا"، وأوصَى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أبا الهيثمِ بالعَبدِ في حُسنِ مُعامَلتِه له، وذلِك بأن يُحسِنَ مُعامَلتَه وألَّا يشُقَّ عليه ولا يُكلِّفَه مِن الأعمالِ ما لا يُطِيقُ، إلى غيرِ ذلك مِن الأعمالِ التي يَتحقَّقُ بها عَمَلُ المعروفِ، حتَّى وإنْ كان الَّذي يُعمَلُ فيه المعروفُ خادمًا.
قال أبو هُريرةَ رضِيَ اللهُ عنه: "فانطلَقَ أبو الهيثمِ إلى امرأتِه، فأخبَرَها بقولِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ"، أي: عن وصيَّتِه في الخادمِ، "فقالتِ امرأتُه: ما أنت ببالِغٍ ما قال فيه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلَّا أنْ تُعْتِقَه"، أي: إنَّ مِن أفضلِ المعروفِ للعبدِ والخادمِ عِتْقَه مِن العُبوديَّةِ ليكونَ حُرًّا، "قال أبو الهيثمِ: فهو عَتيقٌ"، أي: أجاب امرأتَه في نُصْحِها له وأعتَقَ العَبدَ، "فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ اللهَ لم يَبعَثْ نَبيًّا ولا خَليفةً إلَّا وله بِطانتانِ"، بِطانةُ الرَّجلِ: صاحبُ سِرِّه الَّذي يُشاوِرُه في أحوالِه، "بِطانةٌ تأمُرُه بالمعروفِ وتنْهاهُ عنِ المُنْكَرِ"، أي: بالخيرِ، "وبِطانةٌ لا تأْلُوه خَبالًا"، أي: لا تُقصِّرُ في إفسادِ أحوالِه، "ومَن يُوقَ"، أي: أبعَدَ عن نفْسِه، "بِطانةَ السُّوءِ فقد وُقِيَ"، أي: حُفِظَ مِن كلِّ بلاءٍ؛ وذلك أنَّه قد أَعْطى الفُرصةَ لبِطانةِ الخيرِ أنْ تُرشِدَه لعمَلِ المعروفِ وتَنْهاهُ عن المنكَرِ.
وفي الحديثِ: السَّعيُ على الرِّزقِ وسَدِّ الحاجَةِ؛ ؛ فإنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَمَّا اشتَدَّتْ ضَرورتُه نهَضَ ساعيًا في سَدِّها، ووافَق ذلك مِن نُهوضِ أبي بَكرٍ وعُمرَ رضِيَ اللهُ عنهما لمِثلِه ما وافَق.
وفيه: مَشروعيَّةُ ذِكْرِ الإنسانِ ما نالَه مِن ألمٍ أو جوعٍ ونحوِه، لا عَلَى سَبيلِ التَّشكِّي وعدَمِ الرِّضَا.
وفيه: مَشروعيَّةُ سَماعِ كلامِ الأجنبيَّةِ ومُراجعتِها الكلامَ للحاجةِ، وإذنِ المرأةِ في دُخولِ منزلِ زَوجِها لِمَن عَلِمَتْ عِلمًا مُحقَّقًا أنه لا يَكرَهُه بحيثُ لا يخلو بها الخَلوةَ المُحرَّمةَ.
وفيه: إكرامُ الضَّيفِ، ومُبادَرتُه بما حَضَرَ، وإنْ كان الضيفُ كريمَ القَدْرِ.