باب صفة حجة النبى -صلى الله عليه وسلم-
حدثنا عبد الله بن محمد النفيلى وعثمان بن أبى شيبة وهشام بن عمار وسليمان بن عبد الرحمن الدمشقيان - وربما زاد بعضهم على بعض الكلمة والشىء - قالوا حدثنا حاتم بن إسماعيل حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه قال دخلنا على جابر بن عبد الله فلما انتهينا إليه سأل عن القوم حتى انتهى إلى فقلت أنا محمد بن على بن حسين. فأهوى بيده إلى رأسى فنزع زرى الأعلى ثم نزع زرى الأسفل ثم وضع كفه بين ثديى وأنا يومئذ غلام شاب. فقال مرحبا بك وأهلا يا ابن أخى سل عما شئت. فسألته وهو أعمى وجاء وقت الصلاة فقام فى نساجة ملتحفا بها يعنى ثوبا ملفقا كلما وضعها على منكبه رجع طرفاها إليه من صغرها فصلى بنا ورداؤه إلى جنبه على المشجب. فقلت أخبرنى عن حجة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فقال بيده فعقد تسعا. ثم قال إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكث تسع سنين لم يحج ثم أذن فى الناس فى العاشرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حاج فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويعمل بمثل عمله فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبى بكر فأرسلت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كيف أصنع قال « اغتسلى واستذفرى بثوب وأحرمى ». فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فى المسجد ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء. قال جابر نظرت إلى مد بصرى من بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعلم تأويله فما عمل به من شىء عملنا به فأهل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالتوحيد « لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ».
( دَخَلْنَا عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ) : قَالَ النَّوَوِيُّ : هُوَ حَدِيثٌ عَظِيمٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى جُمَلٍ مِنَ الْفَوَائِدِ وَنَفَائِسَ مِنْ مُهِمَّاتِ الْقَوَاعِدِ ، وَهُوَ مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ لَمْ يَرْوِهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ كَرِوَايَةِ مُسْلِمٍ ، وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْفِقْهِ وَأَكْثَرُوا . وَصَنَّفَ فِيهِ أَبُو بَكْرِ بْنِ الْمُنْذِرِ جُزْءًا كَثِيرًا . وَخَرَّجَ فِيهِ مِنَ الْفِقْهِ مِائَةً وَنَيِّفًا وَخَمْسِينَ نَوْعًا ، وَلَوْ تُقُصِّيَ لَزِيدَ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ قَرِيبٌ مِنْهُ
وَفِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ وَرَدَ عَلَيْهِ زَائِرُونَ أَوْ ضِيفَانٌ وَنَحْوُهُمْ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُمْ لِيُنْزِلَهُمْ مَنَازِلَهُمْ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نُنْزِلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ وَفِيهِ إِكْرَامُ أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فَعَلَ جَابِرٌ بِمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ
وَمِنْهَا اسْتِحْبَابُ قَوْلِهِ لِلزَّائِرِ وَالضَّيْفِ وَنَحْوِهِمَا : مَرْحَبًا .
وَمِنْهَا مُلَاطَفَةُ الزَّائِرِ بِمَا يَلِيقُ بِهِ وَتَأْنِيسُهُ ، وَهَذَا سَبَبُ حِلِّ جَابِرٍ زِرَّيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَوَضْعِ يَدِهِ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ .
وَقَوْلُهُ : وَأَنَا يَوْمئِذٍ غُلَامٌ شَابٌّ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ سَبَبَ فِعْلِ جَابِرٍ ذَلِكَ التَّأْنِيسَ لِكَوْنِهِ صَغِيرًا ، أَمَّا الرَّجُلُ الْكَبِيرُ فَلَا يَحُسُّ إِدْخَالَ الْيَدِ فِي جَيْبِهِ ، وَالْمَسْحَ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ .
وَمِنْهَا جَوَازُ إِمَامَةِ الْأَعْمَى ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ ذَلِكَ .
وَمِنْهَا أَنَّ صَاحِبَ الْبَيْتِ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ مِنْ غَيْرِهِ .
وَمِنْهَا جَوَازُ الصَّلَاةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ .
( فَقَامَ فِي نِسَاجَةٍ ) : وَهِيَ بِكَسْرِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْجِيمِ . قَالَ النَّوَوِيُّ : هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي نُسَخِ بِلَادِنَا وَرِوَايَاتِنَا لِصَحِيحِ مُسْلِمٍ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ فِي سَاجَةٍ بِحَذْفِ النُّونِ ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ رِوَايَةِ الْجُمْهُورِ قَالَ هُوَ الصَّوَابُ . قَالَ : وَالسَّاجَةُ وَالسَّاجُ جَمِيعًا ثَوْبٌ كَالطَّيْلَسَانِ وَشِبْهِهِ ، قَالَ رِوَايَةُ النُّونِ وَقَعَتْ فِي رِوَايَةِ الْفَارِسِيِّ ، قَالَ : وَمَعْنَاهُ ثَوْبٌ مُلَفَّقٌ . قَالَ : قَالَ بَعْضُهُمْ : النُّونُ خَطَأٌ وَتَصْحِيفٌ
قُلْتُ : لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ كِلَاهُمَا صَحِيحٌ ، وَيَكُونُ ثَوْبًا مُلَفَّقًا عَلَى هَيْئَةِ الطَّيْلَسَانِ ، قَالَ الْقَاضِي فِي الْمَشَارِقِ : السَّاجُ وَالسَّاجَةُ الطَّيْلَسَانُ وَجَمْعُهُ سِيجَانٌ ، انْتَهَى . وَقَالَ السُّيُوطِيُّ : نَسَاجَةٌ كَسَحَابَةٍ ضَرْبٌ مِنْ مَلَاحِفَ مَنْسُوجَةٍ ، كَأَنَّهَا سُمِّيَتْ بِالْمَصْدَرِ ، انْتَهَى
( يَعْنِي ) : تَفْسِيرٌ لِلنِّسَاجَةِ ( ثَوْبًا مُلَفَّقًا ) : أَيْ ضُمَّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ . قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ : لَفَقْتُ الثَّوْبَ لَفْقًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ ضَمَمْتُ إِحْدَى الشُّقَّتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى ، وَاسْمُ الشُّقَّةِ لِفْقٌ عَلَى وَزْنِ حِمْلٌ وَالْمُلَاءَةُ لِفْقَانِ ( عَلَى الْمِشْجَبِ ) : بِمِيمٍ مَكْسُورَةٍ ، ثُمَّ شِينٍ مُعْجَمَةٍ سَاكِنَةٍ ، ثُمَّ جِيمٍ ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ ، وَهُوَ اسْمٌ لِأَعْوَادٍ يُوضَعُ عَلَيْهَا الثِّيَابُ وَمَتَاعُ الْبَيْتِ ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ . وَقَالَ السُّيُوطِيُّ : مِشْجَبٌ كَمِنْبَرٍ عِيدَانٌ تُضَمُّ رُءُوسُهَا وَتُفَرَّجُ قَوَائِمُهَا فَيُوضَعُ عَلَيْهَا الثِّيَابُ ( عَنْ حَجَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ) : هِيَ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِهَا وَالْمُرَادُ حَجَّةُ الْوَدَاعِ ( فَقَالَ ) : أَيْ أَشَارَ ( فَعَقَدَ ) : أَيْ بِأَنَامِلِهِ عَدَدَ تِسْعَةٍ ( مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ ) : بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِهَا أَيْ لَبِثَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ لَكِنَّهُ اعْتَمَرَ . وَقَدْ فُرِضَ الْحَجُّ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ ، وَقِيلَ سَنَةَ ثَمَانٍ ، وَقِيلَ سَنَةَ تِسْعٍ وَمَرَّ بَيَانُهُ
( ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ ) : بِلَفْظِ الْمَعْرُوفِ أَيْ أَمَرَ بِأَنْ يُنَادَى بَيْنَهُمْ ، وَفِي رِوَايَةٍ بِلَفْظِ الْمَجْهُولِ أَيْ نَادَى مُنَادٍ بِإِذْنِهِ ( فِي الْعَاشِرَةِ زمن حجة الوداع ) : مَعْنَاهُ أَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ وَأَشَاعَهُ بَيْنَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا لِلْحَجِّ مَعَهُ ، وَيَتَعَلَّمُوا الْمَنَاسِكَ وَالْأَحْكَامَ وَيُشَاهِدُوا أَقْوَالَهُ وَأَفْعَالَهُ وَيُوصِيهِمْ لِيُبَلِّغَ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ ، وَتَشِيعَ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ وَتَبْلُغَ الرِّسَالَةُ الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ . وَفِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إِيذَانُ النَّاسِ بِالْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ ؛ لِيَتَأَهَّبُوا بِهَا ( كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ ) : أَيْ يَطْلُبُ وَيَقْصِدُ ( أَنْ يَأْتَمَّ ) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ يَقْتَدِيَ ( وَيَعْمَلَ بِمِثْلِ عَمَلِهِ ) : عَطْفُ تَفْسِيرٍ . قَالَ الْقَاضِي : هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ وَهُمْ لَا يُخَالِفُونَهُ ، وَلِهَذَا قَالَ جَابِرٌ : وَمَا عَمِلَ مِنْ شَيْءٍ عَمِلْنَا بِهِ ، وَمِثْلُهُ تَوَقُّفُهُمْ عَنِ التَّحَلُّلِ بِالْعُمْرَةِ مَا لَمْ يَتَحَلَّلْ حَتَّى أَغْضَبُوهُ ، وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ . وَتَعْلِيقُ عَلِيٍّ وَأَبِي مُوسَى إِحْرَامَهُمَا عَلَى إِحْرَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْتَهَى . قَالَ فِي الْمِرْقَاةِ : وَقَدْ بَلَغَ جُمْلَةُ مَنْ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَصْحَابِهِ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ تِسْعِينَ أَلْفًا ، وَقِيلَ مِائَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا ، انْتَهَى
( وَخَرَجْنَا مَعَهُ ) : أَيْ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ ، كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ( حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ ) : فَنَزَلَ بِهَا فَصَلَّى الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ بَاتَ وَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ وَالظُّهْرَ وَكَانَ نِسَاؤُهُ كُلُّهُنَّ مَعَهُ ، فَطَافَ عَلَيْهِنَّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ ، ثُمَّ اغْتَسَلَ غُسْلًا ثَانِيًا لِإِحْرَامِهِ غَيْرَ غُسْلِ الْجِمَاعِ الْأَوَّلِ ، كَمَا فِي الْمِرْقَاةِ ( اغْتَسِلِي ) : فِيهِ اسْتِحْبَابُ غُسْلِ الْإِحْرَامِ لِلنُّفَسَاءِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ ( وَاسْتَذْفِرِي ) : وَالِاسْتِذْفَارُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ ، وَهُوَ أَنْ تَشُدَّ فَرْجَهَا بِخِرْقَةٍ لِتَمْنَعَ سَيَلَانَ الدَّمِ أَيْ شُدِّي فَرْجَكِ . وَفِيهِ صِحَّةُ إِحْرَامِ النُّفَسَاءِ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ . ( فِي الْمَسْجِدِ ) : الَّذِي بِذِي الْحُلَيْفَةِ . وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ رَكْعَتَيِ الْإِحْرَامِ ( ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ ) : هِيَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَبِالْمَدِّ . قَالَ الْقَاضِي : وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ الْعَذَرِيِّ الْقُصْوَى بِضَمِّ الْقَافِ وَالْقَصْرِ ، قَالَ وَهُوَ خَطَأٌ
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : كَانَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُوقٌ الْقَصْوَاءُ وَالْجَدْعَاءُ وَالْعَضْبَاءُ ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ التَّابِعِيُّ وَغَيْرُهُ : إِنَّ الْعَضْبَاءَ وَالْقَصْوَاءَ وَالْجَدْعَاءَ اسْمٌ لِنَاقَةٍ وَاحِدَةٍ كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( نَظَرْتُ إِلَى مَدِّ بَصَرِي ) : هَكَذَا وَقَعَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ مَدِّ بَصَرِي وَهُوَ صَحِيحٌ ، وَمَعْنَاهُ مُنْتَهَى بَصَرِي ، وَأَنْكَرَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ مَدَّ بَصَرِي ، وَقَالَ : الصَّوَابُ مَدَى بَصَرِي وَلَيْسَ هُوَ بِمُنْكَرٍ بَلْ هُمَا لُغَتَانِ وَالْمَدُّ أَشْهَرُ ( مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشٍ ) : فِيهِ جَوَازُ الْحَجِّ رَاكِبًا وَمَاشِيًا وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ دَلَائِلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : " وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْأَفْضَلِ مِنْهُمَا فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ : الرُّكُوبُ أَفْضَلُ في الْحج أم الْمشي اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّهُ أَعْوَنُ لَهُ عَلَى وَظَائِفِ مَنَاسِكِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ أَكْثَرُ نَفَقَةً . وَقَالَ دَاوُدُ : مَاشِيًا أَفْضَلُ لِمَشَقَّتِهِ ( يَنْزِلُ الْقُرْآنُ وَهُوَ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ ) : مَعْنَاهُ الْحَثُّ عَلَى التَّمَسُّكِ بِمَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ فِعْلِهِ فِي حَجَّتِهِ تِلْكَ ( فَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ) : أَيْ رَفَعَ صَوْتَهُ ( بِالتَّوْحِيدِ ) : أَيْ إِفْرَادِ التَّلْبِيَةِ لِلَّهِ بِقَوْلِهِ : ( لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ) : وَكَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَزِيدُ فِي التَّلْبِيَةِ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ ، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مُخَالَفَتِهَا ( فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ ) : هَكَذَا فِي نُسَخِ أَبِي دَاوُدَ وَبَعْضِ نُسَخِ مُسْلِمٍ لَفْظُ يَرُدُّ بِالرَّاءِ بَعْدَ الْيَاءِ مِنْ رَدَّ يَرُدُّ ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ مُسْلِمٍ بِالزَّايِ بَعْدَ الْيَاءِ مِنَ الزِّيَادَةِ ، أَيْ فَلَمْ يَزِدْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا مِنْهُ وَأَخَذَ هَذِهِ النُّسْخَةَالنَّوَوِيُّ فَقَالَ : قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا رُوِيَ مِنْ زِيَادَةِ النَّاسِ فِي التَّلْبِيَةِ عَلَى الْمَأْثُورِ مِنَ الثَّنَاءِ وَالذِّكْرِ كَمَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَزِيدُ : لَبَّيْكَ ذَا النَّعْمَاءِ وَالْفَضْلِ الْحَسَنِ لَبَّيْكَ مَرْهُوبًا مِنْكَ وَمَرْغُوبًا إِلَيْكَ . وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ ، وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ وَالْعَمَلُ ، وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : لَبَّيْكَ حَقًّا تَعَبُّدًا وَرِقًّا ، قَالَ الْقَاضِي : قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ الْمُسْتَحَبُّ الِاقْتِصَارُ عَلَى تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ ( وَلَزِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَلْبِيَتَهُ ) : أَيْ يُرَدِّدُهَا فِي مَوَاضِعَ ( قَالَ جَابِرٌ لَسْنَا نَنْوِي إِلَّا الْحَجَّ ) : اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ بِتَرْجِيحِ الْإِفْرَادِ وَلَا دَلِيلَ فِيهِ ( لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ ) : أَيْ مَعَ الْحَجِّ أَيْ لَا نَرَى الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ اسْتِصْحَابًا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَوَّلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ كَوْنِ الْعُمْرَةِ مَحْظُورَةً فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ . وَقِيلَ : مَا قَصَدْنَاهَا وَلَمْ تَكُنْ فِي ذِكْرِنَا . وَالْمَعْنَى لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ مَقْرُونَةً بِالْحَجَّةِ أَوِ الْعُمْرَةَ الْمُفْرَدَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ . وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ الصَّحَابَةَ خَرَجُوا مَعَهُ لَا يَعْرِفُونَ إِلَّا الْحَجَّ ، فَبَيَّنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمْ وُجُوهَ الْإِحْرَامِ وَجَوَّزَ لَهُمُ الِاعْتِمَارَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، فَقَالَ : مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ فَلْيُهِلَّ . ( فَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا ) : فِيهِ أَنَّ الطَّوَافَ سَبْعُ طَوَافَاتٍ ، وَفِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَرْمُلَ الثَّلَاثَ الْأُوَلَ وَيَمْشِيَ عَلَى عَادَتِهِ فِي الْأَرْبَعِ الْأَخِيرَةِ ، وَالرَّمَلُ هُوَ أَسْرَعُ الْمَشْيِ مَعَ تَقَارُبِ الْخُطَى وَهُوَ الْخَبَبُ ، وَلَا يُسْتَحَبُّ الرَّمَلُ إِلَّا فِي طَوَافٍ وَاحِدٍ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ
أَمَّا إِذَا طَافَ فِي غَيْرِ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَلَا رَمَلَ ، وَلَا يُسْرِعُ أَيْضًا فِي كُلِّ طَوَافِ حَجٍّ ، وَإِنَّمَا يُسْرِعُ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا ، وَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلشَّافِعِيِّ أَصَحُّهُمَا طَوَافٌ يَعْقُبُهُ سَعْيٌ ، وَيُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ ، وَيُتَصَوَّرُ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي طَوَافِ الْوَدَاعِ ، وَيُسَنُّ الِاضْطِبَاعُ فِي طَوَافِ يُسَنُّ فِيهِ الرَّمَلُ عَلَى مَا سَبَقَ تَفْصِيلُهُ ( اسْتَلَمَ الرُّكْنَ ) : أَيْ مَسَحَهُ بِيَدِهِ وَهُوَ سُنَّةٌ فِي كُلِّ طَوَافٍ ، وَأَرَادَ بِهِ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَأَطْلَقَ الرُّكْنَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ غَلَبَ عَلَى الْيَمَانِيِّ . ( فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ ) : هَذَا دَلِيلٌ لِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ طَائِفٍ إِذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ هُمَا وَاجِبَتَانِ أَمْ سُنَّتَانِ ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يُصَلِّيَهُمَا خَلْفَ الْمَقَامِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَفِي الْحِجْرِ ، وَإِلَّا فَفِي الْمَسْجِدِ ، وَإِلَّا فَفِي مَكَّةَ وَسَائِرِ الْحَرَمِ ، وَلَوْ صَلَّاهَا فِي وَطَنِهِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَقَاصِي الْأَرْضِ جَازَ وَفَاتَهُ الْفَضِيلَةُ ، وَلَا يُفَوِّتُ هَذِهِ الصَّلَاةَ مَا دَامَ حَيًّا . وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَطُوفَ أَطْوِفَةً اسْتُحِبَّ أَنْ يُصَلِّيَ عَقِيبَ كُلِّ طَوَافٍ رَكْعَتَيْهِ ، فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَطُوفَ أَطْوِفَةً بِلَا صَلَاةٍ ، ثُمَّ يُصَلِّي بَعْدَ الْأَطْوِفَةِ لِكُلِّ طَوَافٍ رَكْعَتَيْهِ قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : يَجُوزُ ذَلِكَ وَهُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى ، وَلَا يُقَالُ : مَكْرُوهٌ
وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ ، وَعَائِشَةُ وَطَاوُسٌ وَعَطَاءٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو يُوسُفَ . وَكَرِهَهُ ابْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . ( قَالَ ) : أَيْ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ( فَكَانَ أَبِي ) : مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ يَقُولُ فِي رِوَايَتِهِ ( قَالَ ابْنُ نُفَيْلٍ وَعُثْمَانُ ) : أَيْ فِي حَدِيثَيْهِمَا ( وَلَا أَعْلَمُهُ ) : أَيْ لَا أَعْلَمُ جَابِرًا ( ذَكَرَهُ ) : هَذَا الْأَمْرَ ، وَهُوَ الْقِرَاءَةُ بِالسُّورَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ ( إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ) : وَمِنْ قَوْلِهِ . وَلَا أَعْلَمُهُ مَقُولَةً يَقُولُ أَيْ كَانَ أَبِي يَقُولُ : وَلَا أَعْلَمُ جَابِرًا ذَكَرَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . ( قَالَ سُلَيْمَانُ ) : بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي حَدِيثِهِ ( وَلَا أَعْلَمُهُ ) : أَيْ جَابِرًا ( إِلَّا قَالَ ) : جَابِرٌ فِي قِرَاءَةِ السُّورَتَيْنِ ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ ) : ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ فَكَانَ أَبِي يَقُولُ : وَلَا أَعْلَمُهُ ذَكَرَهُ إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ أي ركعتا الطواف
قَالَ النَّوَوِيُّ : مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : كَانَ أَبِي يَعْنِي مُحَمَّدًا يَقُولُ : إِنَّهُ قَرَأَ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ . قَالَ جَعْفَرٌ : وَلَا أَعْلَمُ أَبِي ذَكَرَ تِلْكَ الْقِرَاءَةَ عَنْ قِرَاءَةِ جَابِرٍ فِي صَلَاةِ جَابِرٍ ، بَلْ عَنْ جَابِرٍ عَنْ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَلَاتِهِ قَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بَعْدَ الْفَاتِحَةِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَفِي الثَّانِيَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : لَا أَعْلَمُ ذَكَرَهُ إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَيْسَ هُوَ شَكًّا فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ الْعِلْمِ تُنَافِي الشَّكَّ بَلْ جَزَمَ بِرَفْعِهِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَافَ بِالْبَيْتِ ، فَرَمَلَ مِنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ثَلَاثًا ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَرَأَ فِيهِمَا قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْبَيْتِ فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ ) : فِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلطَّائِفِ طَوَافُ الْقُدُومِ - إِذَا فَرَغَ مِنَ الطَّوَافِ وَصَلَاتِهِ خَلْفَ الْمَقَامِ - أَنْ يَعُودَ إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَيَسْتَلِمُهُ ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ بَابِ الصَّفَا لِيَسْعَى ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذَا الِاسْتِلَامَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ سُنَّةٌ لَوْ تَرَكَهُ لَمْ يَلْزَمْ دَمٌ . ( ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ ) : أَيِ الصَّفَا ( إِلَى الصَّفَا ) : أَيْ جَبَلِ الصَّفَا
قَالَ النَّوَوِيُّ : فِيهِ أَنَّ السَّعْيَ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَبْدَأَ مِنَ الصَّفَا ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ
وَقَدْ ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ ، هَكَذَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ . وَمِنْهَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَرْقَى عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، وَفِي هَذَا الرُّقِيِّ خِلَافٌ . قَالَ الْجُمْهُورُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ : هُوَ سُنَّةٌ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَلَا وَاجِبٍ ، فَلَوْ تَرَكَهُ صَحَّ سَعْيُهُ لَكِنْ فَاتَتْهُ الْفَضِيلَةُ . وَفِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْقَى عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ إِنْ أَمْكَنَهُ ، فِيهِ أَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يَقِفَ عَلَى الصَّفَا مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ وَيَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى بِهَذَا الذِّكْرِ الْمَذْكُورِ ، وَيَدْعُوَ وَيُكَرِّرَ الذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ . ( أَنْجَزَ وَعْدَهُ ) : أَيْ وَفَى وَعْدَهُ بِإِظْهَارِهِ - تَعَالَى - لِلدِّينِ . ( وَنَصَرَ عَبْدَهُ ) : يُرِيدُ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفْسَهُ . ( وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ ) : فِي يَوْمِ الْخَنْدَقِ . ( وَحْدَهُ ) : أَيْ مِنْ غَيْرِ قِتَالِ الْآدَمِيِّينَ وَلَا سَبَبَ لِانْهِزَامِهِمْ ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا أَوِ الْمُرَادُ : كُلُّ مَنْ تَحَزَّبَ لِحَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ هَزَمَهُمْ ، وَكَانَ الْخَنْدَقُ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ ، وَقِيلَ سَنَةَ خَمْسٍ . ( ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ ) : أَيْ بَيْنَ مَرَّاتِ هَذَا الذِّكْرِ بِمَا شَاءَ ، وَقَالَ الذِّكْرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالَهُ السِّنْدِيُّ . وَقَالَ الْقَارِيُّ : إِنَّهُ دَعَا بَعْدَ فَرَاغِ الْمَرَّةِ الْأُولَى مِنَ الذِّكْرِ وَقَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ ( حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ ) : أَيِ انْحَدَرَتْ فِي السَّعْيِ مَجَازٌ مِنْ قَوْلِهِمْ : صَبَّ الْمَاءَ فَانْصَبَّ ( رَمَلَ ) : وَفِي الْمُوَطَّأِ سَعَى وَهُوَ بِمَعْنَى رَمَلَ ( فِي بَطْنِ الْوَادِي ) : أَيِ الْمَسْعَى وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَفْرَجٌ بَيْنَ جِبَالٍ أَوْ تِلَالٍ أَوْ آكَامٍ يَعْنِي انْحَدَرَتْ قَدَمَاهُ بِالسُّهُولَةِ فِي صَيِّبٍ مِنَ الْأَرْضِ وَهُوَ الْمُنْحَدِرُ الْمُنْخَفِضُ مِنْهَا أَيْ حَتَّى بَلَغَتَا عَلَى وَجْهِ السُّرْعَةِ إِلَى أَرْضٍ مُنْخَفِضَةٍ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُالسَّعْيِ الشَّدِيدِ فِي بَطْنِ الْوَادِيِ بين الصفا والمروة حَتَّى يَصْعَدَ ، ثُمَّ يَمْشِي بَاقِيَ الْمَسَافَةِ إِلَى الْمَرْوَةِ عَلَى عَادَةِ مَشْيِهِ ، وَهَذَا السَّعْيُ مُسْتَحَبٌّ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنَ الْمَرَاتِبِ السَّبْعِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَالْمَشْيُ مُسْتَحَبٌّ فِيمَا قَبْلَ الْوَادِي وَبَعْدَهُ ، وَلَوْ مَشَى فِي الْجَمِيعِ أَوْ سَعَى فِي الْجَمِيعِ أَجْزَأَهُ وَفَاتَهُ الْفَضِيلَةُ . هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ
وَعَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ تَرَكَهُ - السَّعْيُ الشَّدِيدُ فِي مَوْضِعِهِ - رِوَايَتَانِ أَحَدُهُمَا كَمَا ذَكَرْنَا ، وَالثَّانِيَةُ تَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَتُهُ ( فَصَنَعَ عَلَى الْمَرْوَةِ مِثْلَ مَا صَنَعَ عَلَى الصَّفَا ) : مِنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالرُّقِيِّ كَمَا صَنَعَ عَلَى الصَّفَا وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ( حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ الطَّوَافِ عَلَى الْمَرْوَةِ ) : فِيهِ دَلَالَةٌ لِمَذْهَبِ الْجُمْهُورِ أَنَّ الذَّهَابَ مِنَ الصَّفَا إِلَى الْمَرْوَةِ يُحْسَبُ مَرَّةً وَالرُّجُوعُ مِنَ الْمَرْوَةِ إِلَى الصَّفَا ثَانِيَةً وَالرُّجُوعُ إِلَى الْمَرْوَةِ ثَالِثَةً ، وَهَكَذَا فَيَكُونُ ابْتِدَاءُ السَّبْعِ مِنَ الصَّفَا وَآخِرُهَا بِالْمَرْوَةِ ( قَالَ ) : النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ جَوَابُ إِذَا ( إِنِّي لَوِ اسْتَقْبَلْتُ ) : أَيْ لَوْ عَلِمْتُ فِي قَبْلِ ( مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ ) : أَيْ مَا عَلِمْتُهُ فِي دُبُرٍ مِنْهُ . وَالْمَعْنَى لَوْ ظَهَرَ لِيَ هَذَا الرَّأْيُ الَّذِي رَأَيْتُهُ الْآنَ لَأَمَرْتُكُمْ بِهِ فِي أَوَّلِ أَمْرِي وَابْتِدَاءِ خُرُوجِي ( لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ ) : بِضَمِّ السِّينِ يَعْنِي لَمَا جَعَلْتُ عَلَيَّ هَدْيًا وَأَشْعَرْتُهُ وَقَلَّدْتُهُ وَسُقْتُهُ بَيْنَ يَدَيَّ ، فَإِنَّهُ إِذَا سَاقَ الْهَدْيَ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَنْحَرَ وَلَا يَنْحَرُ إِلَّا يَوْمَ النَّحْرِ ، فَلَا يَصِحُّ لَهُ فَسْخُ الْحَجِّ بِعُمْرَةٍ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَسُقْ ، إِذْ يَجُوزُ لَهُ فَسْخُ الْحَجِّ ، إِنَّمَا قَالَهُ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ ، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ الْأَفْضَلَ لَهُمْ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ إِذْ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ تَرْكُ الِاقْتِدَاءِ بِفِعْلِهِ
وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يَجْعَلُ التَّمَتُّعَ أَفْضَلَ ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا ( وَلَجَعَلْتُهَا ) : أَيِ الْحَجَّةَ ( عُمْرَةً ) : أَيْ جَعَلْتُ إِحْرَامِي بِالْحَجِّ مَصْرُوفًا إِلَى الْعُمْرَةِ ، كَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ مُوَافَقَةً . ( لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ ) : الْهَدْيُ بِإِسْكَانِ الدَّالِ وَكَسْرِهَا وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ مَعَ الْكِسْرَةِ ( فَلْيَحْلِلْ ) : بِسُكُونِ الْحَاءِ أَيْ لِيَصِرْ حَلَالًا وَلْيَخْرُجْ مِنْ إِحْرَامِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ ( وَلْيَجْعَلْهَا ) : أَيِ الْحَجَّةَ ( عُمْرَةً ) : إِذْ قَدْ أُبِيحَ لَهُ مَا حَرُمَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ الْإِحْرَامَ لِلْحَجِّ ، قَالَهُ الْقَارِيُّ
( فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ ) : هُوَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ بِضَمِّ الْجِيمِ وَبِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِهَا - ذَكَرَهُمَا الْجَوْهَرِيُّ - 0 ( أَلِعَامِنَا هَذَا ) : أَيْ جَوَازُ فَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ .وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ أَوِ الْإِتْيَانُ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَوْ مَعَ الْحَجِّ يَخْتَصُّ بِهَذِهِ السَّنَةِ 1 ( أَمْ لِلْأَبَدِ ) : أَيْ مِنَ الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ 2 ( هَكَذَا ) : أَيْ كَالتَّشْبِيكِ 3 ( مَرَّتَيْنِ ) : أَيْ قَالَهَا مَرَّتَيْنِ 4 ( لَا ) : أَيْ لَيْسَ لِعَامِنَا هَذَا فَقَطْ 5 ( بَلْ لِأَبَدِ أَبَدٍ ) : بِإِضَافَةِ الْأَوَّلِ إِلَى الثَّانِي أَيْ آخِرِ الدَّهْرِ ، أَوْ بِغَيْرِ الْإِضَافَةِ وَكَرَّرَهُ لِلتَّأْكِيدِ . وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ ثُمَّ قَامَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ مُتْعَتَنَا هَذِهِ لِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ أَيْ مَخْصُوصَةٌ بِهِ لَا تَجُوزُ فِي غَيْرِهِ أَمْ لِجَمِيعِ الْأَعْصَارِ ، فَقَالَ : هِيَ لِلْأَبَدِ أَيْ لَا يَخْتَصُّ بِهِ بَلْ لِجَمِيعِهَا إِلَى أَبَدِ الْآبَادِ . وَهَذَا أَصْرَحُ دَلِيلٍ عَلَى فَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ
فَمَعْنَى قَوْلِ سُرَاقَةَ : أَلِعَامِنَا هَذَا عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالظَّاهِرِيَّةِ أَهَلِ الْفَسْخُ لِعَامِنَا هَذَا ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا أَهَلِ التَّمَتُّعُ لِعَامِنَا هَذَا ، فَعَلَى الْأُولَى مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ أَيْ دَخَلَتْ نِيَّةُ الْعُمْرَةِ فِي نِيَّةِ الْحَجِّ بِحَيْثُ إِنَّ مَنْ نَوَى الْحَجَّ صَحَّ الْفَرَاغُ مِنْهُ بِالْعُمْرَةِ ، وَعَلَى الثَّانِي حَلَّتِ الْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَصَحَّتْ . قَالُوا : وَالْمَقْصُودُ إِبْطَالُ مَا زَعَمَهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ أَنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَجُوزُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَقِيلَ : مَعْنَاهُ جَوَازُ الْقِرَانِ . وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ : دَخَلَتْ أَفْعَالُ الْعُمْرَةِ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، قَالُوا : وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَشْبِيكُ الْأَصَابِعِ
قَالَ النَّوَوِيُّ : وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْفَسْخِ هَلْ هُوَ خَاصٌّ لِلصَّحَابَةِ أَمْ لِتِلْكَ السَّنَةِ أَمْ بَاقٍ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؟ فَقَالَ أَحْمَدُ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ : لَيْسَ خَاصًّا بَلْ هُوَ بَاقٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، فَيَجُوزُ لِكُلِّ مَنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ ، وَلَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يَقْلِبَ إِحْرَامَهُ عُمْرَةً وَيَتَحَلَّلَ بِأَعْمَالِهَا . وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لِيُخَالِفُوا مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ تَحْرِيمِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، انْتَهَى
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي زَادِ الْمَعَادِ بَعْدَ ذِكْرِهِ حَدِيثَ الْبَرَاءِ وَغَضَبَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا لَمْ يَفْعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ الْفَسْخِ : وَنَحْنُ نُشْهِدُ اللَّهَ عَلَيْنَا أَنَّا لَوْ أَحْرَمْنَا بِحَجٍّ لَرَأَيْنَا فَرْضًا عَلَيْنَا فَسْخَهُ إِلَى عُمْرَةٍ تَفَادِيًا مِنْ غَضَبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاتِّبَاعًا لِأَمْرِهِ . فَوَاللَّهِ مَا نُسِخَ هَذَا فِي حَيَاتِهِ وَلَا بَعْدَهُ وَلَا صَحَّ حَرْفٌ وَاحِدٌ يُعَارِضُهُ وَلَا خُصَّ بِهِ أَصْحَابُهُ دُونَ مَنْ بَعْدَهُمْ ، بَلْ أَجْرَى اللَّهُ عَلَى لِسَانِ سُرَاقَةَ أَنْ سَأَلَهُ هَلْ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ أَمْ لَا ؟ فَأَجَابَهُ بِأَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ لِأَبَدِ الْأَبَدِ ، فَمَا نَدْرِي مَا يُقَدَّمُ عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ ، وَهَذَا الْأَمْرُ الْمُؤَكَّدُ الَّذِي غَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَنْ خَالَفَهُ ، انْتَهَى . وَتَقَدَّمَ بَعْضُ الْبَيَانِ فِي بَابِ إِفْرَادِ الْحَجِّ
6 ( بِبُدْنٍ ) : بِضَمِّ الْبَاءِ وَسُكُونِ الدَّالِ جَمْعُ بَدَنَةٍ 7 ( صَبِيغًا ) : أَيْ مَصْبُوغًا 8 ( فَأَنْكَرَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَلِكَ عَلَيْهَا ) : فِيهِ إِنْكَارُ الرَّجُلِ عَلَى زَوْجَتِهِ مَا رَآهُ مِنْهَا مِنْ نَقْصٍ فِي دِينِهَا ؛ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَأَنْكَرَ قَالَ أَيْ جَابِرٌ 9 ( يَقُولُ بِالْعِرَاقِ ) : أَيْ حِينَ كَانَ فِيهِ 0 ( مُحَرِّشًا عَلَى فَاطِمَةَ ) : التَّحْرِيشُ الْإِغْرَاءُ ، وَالْمُرَادُ هَاهُنَا أَنْ يَذْكُرَ لَهُ مَا يَقْتَضِي عِتَابَهَا 1 ( قُلْتُ اللَّهُمَّ إِنِّي أُهِلُّ ) : فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْإِحْرَامِ بِإِحْرَامٍ كَإِحْرَامِ فُلَانٍ 2 ( فَحَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ ) : وَفِيهِ إِطْلَاقُ اللَّفْظِ الْعَامِّ وَإِرَادَةُ الْخُصُوصِ ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ لَمْ تَحِلَّ وَلَمْ تَكُنْ مِمَّنْ سَاقَ الْهَدْيَ ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ حَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ أَيْ مُعْظَمُهُمْ 3 ( وَقَصَّرُوا ) : وَلَمْ يَحْلِقُوا مَعَ أَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَبْقَى شَعْرٌ يُحْلَقُ فِي الْحَجِّ ، فَلَوْ حَلَقُوا لَمْ يَبْقَ شَعْرٌ فَكَانَ التَّقْصِيرُ هَاهُنَا أَحْسَنَ لِيَحْصُلَ فِي النُّسُكَيْنِ إِزَالَةُ شَعْرٍ . 4 ( فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ ) : هُوَ الثَّامِنُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّ الْحُجَّاجَ يَرْتَوُونَ وَيَشْرَبُونَ فِيهِ مِنَ الْمَاءِ ، وَيَسْقُونَ الدَّوَابَّ لِمَا بَعْدَهُ . وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ أَحَدٌ إِلَى مِنًى قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ . وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ ذَلِكَ وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ لَا بَأْسَ بِهِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ 5 ( فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَخْ ) : فِيهِ بَيَانُ سُنَنٍ : إِحْدَاهَا أَنَّ الرُّكُوبَ فِي تِلْكَ الْمَوَاطِنِ أَفْضَلُ مِنَ الْمَشْيِ ، كَمَا أَنَّهُ فِي جُمْلَةِ الطَّرِيقِ أَفْضَلُ مِنَ الْمَشْيِ
وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ الْأَفْضَلُ فِي جُمْلَةِ الْحَجِّ الرُّكُوبُ إِلَّا فِي مَوَاطِنِ الْمَنَاسِكِ ، وَهِيَ مَكَّةُ وَمِنًى وَمُزْدَلِفَةُ وَعَرَفَاتٌ وَالتَّرَدُّدُ بَيْنَهَا . وَالسُّنَّةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يُصَلِّيَ بِمِنًى هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ . وَالثَّالِثَةُ أَنْ يَبِيتَ بِمِنًى هَذِهِ اللَّيْلَةَ ، وَهِيَ لَيْلَةُ التَّاسِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ، وَهَذَا الْمَبِيتُ سُنَّةٌ لَيْسَ بِرُكْنٍ وَلَا وَاجِبٍ فَلَوْ تَرَكَهُ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ . 6 ( حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ ) : فِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ لَا يَخْرُجُوا مِنْ مِنًى حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ 7 ( وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ لَهُ مِنْ شَعْرٍ فَضُرِبَتْ بِنَمِرَةٍ ) : بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمِيمِ اسْمُ مَوْضِعٍ قَرِيبٍ مِنْ عَرَفَاتٍ ، وَهِيَ مُنْتَهَى أَرْضِ الْحَرَمِ وَكَانَ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ . فِيهِ اسْتِحْبَابُ النُّزُولِ بِنَمِرَةٍ إِذَا ذَهَبُوا مِنْ مِنًى ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ لَا يَدْخُلُوا عَرَفَاتٍ إِلَّا بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ ، وَبَعْدَ صَلَاتَيِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ جَمِيعًا . فَالسُّنَّةُ أَنْ يَنْزِلُوا بِنَمِرَةٍ فَمَنْ كَانَ لَهُ قُبَّةٌ ضَرَبَهَا وَيَغْتَسِلُونَ لِلْوُقُوفِ قَبْلَ الزَّوَالِ فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ سَارَ بِهِمُ الْإِمَامُ إِلَى مَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَخَطَبَ بِهِمْ خُطْبَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ وَخُفِّفَتِ الثَّانِيَةُ جِدًّا ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُمَا صَلَّى بِهِمُ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَامِعًا بَيْنَهُمَا ، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ سَارَ إِلَى الْمَوْقِفِ
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ الِاسْتِظْلَالِ لِلْمُحْرِمِ بِقُبَّةٍ وَغَيْرِهَا ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ لِلنَّازِلِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِهِ لِلرَّاكِبِ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ جَوَازُهُ وَبِهِ قَالَ كَثِيرُونَ ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ . وَفِيهِ جَوَازُ اتِّخَاذِ الْقِبَابِ وَجَوَازُهَا مِنْ شَعْرٍ 8 ( وَلَا تَشُكُّ قُرَيْشٌ إِلَخْ ) : أَيْ إِنَّهُمْ لَمْ يَشُكُّوا فِي الْمُخَالَفَةِ بَلْ تَحَقَّقُوا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقِفُ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَوَاقِفِ الْحُمْسِ في الجاهلية أَهْلِ حَرَمِ اللَّهِ 9 ( فَأَجَازَ ) : أَيْ تَجَاوَزَ عَنِ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى عَرَفَاتٍ . قَالَ النَّوَوِيُّ : مَعْنَى هَذَا أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَقِفُ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ، وَهُوَ جَبَلٌ فِي الْمُزْدَلِفَةِ يُقَالُ لَهُ قُزَحُ ، وَقِيلَ إِنَّ الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ كُلُّ الْمُزْدَلِفَةِ وَكَانَ سَائِرُ الْعَرَبِ يَتَجَاوَزُونَ الْمُزْدَلِفَةَ ، وَيَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ فَظَنَّتْ قُرَيْشٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقِفُ فِي الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ عَلَى عَادَتِهِمْ وَلَا يَتَجَاوَزُ ، فَتَجَاوَزَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى عَرَفَاتٍ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَمَرَهُ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ أَيْ سَائِرُ الْعَرَبِ غَيْرَ قُرَيْشٍ ، وَإِنَّمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَقِفُ بِالْمُزْدَلِفَةِ ؛ لِأَنَّهَا مِنَ الْحَرَمِ ، وَكَانُوا يَقُولُونَ : نَحْنُ أَهْلُ حَرَمِ اللَّهِ فَلَا نَخْرُجُ مِنْهُ 0 ( حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ ) : مَجَازٌ ، وَالْمُرَادُ : قَارَبَ عَرَفَاتٍ ؛ لِأَنَّهُ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ : وَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ بِنَمِرَةٍ فَنَزَلَ بِهَا ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ نَمِرَةَ لَيْسَتْ مِنْ عَرَفَاتٍ ، وَأَنَّ دُخُولَ عَرَفَاتٍ قَبْلَ صَلَاتَيِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ جَمِيعًا خِلَافُ السُّنَّةِ ، وَالْقُبَّةُ هِيَ خَيْمَةٌ صَغِيرَةٌ 1 ( حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ ) : أَيْ مَالَتْ وَزَالَتْ عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ مِنْ جَانِبِ الشَّرْقِ إِلَى جَانِبِ الْغَرْبِ
2 ( أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ ) : لَقَبُ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ تَكُنْ قَصْوَاءَ أَيْ مَقْطُوعَةَ الْأُذُنِ : أَيْ بِإِحْضَارِهَا 3 ( فَرُحِلَتْ ) : هُوَ بِتَخْفِيفِ الْحَاءِ أَيْ جُعِلَ عَلَيْهَا الرَّحْلُ 4 ( بَطْنَ الْوَادِي ) : هُوَ وَادِي عُرَنَةَ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَبَعْدَهَا نُونٌ ، وَلَيْسَتْ عُرَنَةُ مِنْ أَرْضِ عَرَفَاتٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَالْعُلَمَاءِ كَافَّةً إِلَّا مَالِكًا فَقَالَ هِيَ مِنْ عَرَفَاتٍ . ( فَخَطَبَ النَّاسَ ) : فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْخُطْبَةِ لِلْإِمَامِ بِالْحَجِيجِ يَوْمَ عَرَفَةَ بوادي عرنة فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَهُوَ سُنَّةٌ بِاتِّفَاقِ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ ، وَخَالَفَ فِيهَا الْمَالِكِيَّةُ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ فِي الْحَجِّ أَرْبَعُ خُطَبٍ مَسْنُونَةٍ إِحْدَاهَا يَوْمَ السَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ يَخْطُبُ عِنْدَ الْكَعْبَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ ، وَالثَّانِيَةُ هَذِهِ الَّتِي بِبَطْنِ عُرَنَةَ يَوْمَ عَرَفَاتٍ ، وَالثَّالِثَةُ يَوْمَ النَّحْرِ خطبة ، وَالرَّابِعَةُ يَوْمَ النَّفْرِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ خطبة . قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَكُلُّ هَذِهِ الْخُطَبُ أَفْرَادٌ ، وَبَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ إِلَّا الَّتِي يَوْمَ عَرَفَاتٍ ، فَإِنَّهَا خُطْبَتَانِ وَقَبْلَ الصَّلَاةِ ، وَيُعَلِّمُهُمْ فِي كُلِّ خُطْبَةٍ مِنْ هَذِهِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ إِلَى الْخُطْبَةِ الْأُخْرَى ( فَقَالَ إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ ) : أَيْ تَعَرُّضُهَا ( عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ) : أَيْ لَيْسَ لِبَعْضِكُمْ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِبَعْضٍ فَيُرِيقَ دَمَهُ أَوْ يَسْلُبَ مَالَهُ ( كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا ) : يَعْنِي تَعَرُّضُ بَعْضِكُمْ دِمَاءَ بَعْضٍ وَأَمْوَالَهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَيَّامِ كَحُرْمَةِ التَّعَرُّضِ لَهُمَا فِي يَوْمِ عَرَفَةَ ( فِي شَهْرِكُمْ هَذَا ) : أَيْ ذِي الْحِجَّةِ ( فِي بَلَدِكُمْ هَذَا ) : أَيْ مَكَّةَ أَوِ الْحَرَمَ الْمُحْتَرَمَ . وَفِيهِ تَأْكِيدٌ ؛ حَيْثُ جَمَعَ بَيْنَ حُرْمَةِ الزَّمَانِ وَاحْتِرَامِ الْمَكَانِ فِي تَشْبِيهِ حُرْمَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَبَدَانِ
قَالَ النَّوَوِيُّ : مَعْنَاهُ مُتَأَكِّدَةُ التَّحْرِيمِ شَدِيدَتُهُ . وَفِي هَذَا دَلِيلٌ لِضَرْبِ الْأَمْثَالِ وَإِلْحَاقِ النَّظِيرِ بِالنَّظِيرِ قِيَاسًا ( أَلَا ) : لِلتَّنْبِيهِ ( إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ ) : أَيْ فَعَلَهُ أَحَدُكُمْ ( مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ ) : أَيْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ( تَحْتَ قَدَمَيَّ ) : بِالتَّثْنِيَةِ ( مَوْضُوعٌ ) : أَيْ كَالشَّيْءِ الْمَوْضُوعِ تَحْتَ الْقَدَمِ وَهُوَ مَجَازٌ عَنْ إِبْطَالِهِ ، وَالْمَعْنَى عَفَوْتُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ فَعَلَهُ رَجُلٌ قَبْلَ الْإِسْلَامِ حَتَّى صَارَ كَالشَّيْءِ الْمَوْضُوعِ تَحْتَ الْقَدَمِ
قَالَ النَّوَوِيُّ : فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ إِبْطَالُ أَفْعَالِ الْجَاهِلِيَّةِ وَبُيُوعِهَا الَّتِي لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا قَبْضٌ ، وَأَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي قَتْلِهَا ، وَأَنَّ الْإِمَامَ وَغَيْرَهُ مِمَّنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ يَنْبَغِي أَنْ يَبْدَأَ بِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ ، فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى قَبُولِ قَوْلِهِ وَإِلَى طِيبِ نَفْسِ مَنْ قَرُبَ عَهْدُهُ بِالْإِسْلَامِ ( وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ ) : أَيْ مَتْرُوكَةٌ لَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ وَلَا كَفَّارَةَ ، أَعَادَهَا لِلِاهْتِمَامِ أَوْ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْكَلَامِ ( وَأَوَّلُ دَمٍ أَضَعُهُ ) : أَيْ أَضَعُهُ وَأَتْرُكُهُ ( دِمَاؤُنَا ) : أَيِ الْمُسْتَحَقَّةُ لَنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ أَوْ دِمَاءُ أَقَارِبِنَا ؛ وَلِذَا قَالَ الطِّيبِيُّ : ابْتَدَأَ فِي وَضْعِ الْقَتْلِ وَالدِّمَاءِ بِأَهْلِ بَيْتِهِ وَأَقَارِبِهِ ؛ لِيَكُونَ أَمْكَنَ فِي قُلُوبِ السَّامِعِينَ وَأَسَدَّ لِبَابِ الطَّمَعِ بِتَرَخُّصٍ فِيهِ . 5 ( دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ ) : اسْمُهُ إِيَاسٌ هُوَ ابْنُ عَمِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَالَ النَّوَوِيُّ : قَالَ الْمُحَقِّقُونَ وَالْجُمْهُورُ : اسْمُ هَذَا الِابْنِ إِيَاسُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ . وَقَالَ الْقَاضِي : وَرَوَاهُ بَعْضُ رُوَاةِ مُسْلِمٍ دَمُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ . قَالَ وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ، قِيلَ هُوَ وَهْمٌ وَالصَّوَابُ ابْنُ رَبِيعَةَ لِأَنَّ رَبِيعَةَ عَاشَ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَتَأَوَّلَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فَقَالَ : دَمُ رَبِيعَةَ ؛ لِأَنَّهُ وَلِيُّ الدَّمِ فَنَسَبَهُ إِلَيْهِ ، انْتَهَى . ( كَانَ مُسْتَرْضَعًا ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيْ كَانَ لِابْنِهِ ظِئْرٌ تُرْضِعُهُ ( فَقَتَلَتْهُ ) : أَيِ ابْنَ رَبِيعَةَ ( هُذَيْلٌ ) : وَكَانَ طِفْلًا صَغِيرًا يَحْبُو بَيْنَ الْبُيُوتِ فَأَصَابَهُ حَجَرٌ فِي حَرْبِ بَنِي سَعْدٍ مَعَ قَبِيلَةِ هُذَيْلٍ فَقَتَلَهُ ( وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ ) : يُرِيدُ أَمْوَالَهُمُ الْمَغْصُوبَةَ وَالْمَنْهُوبَةَ . وَإِنَّمَا خَصَّ الرِّبَا تَأْكِيدًا لِأَنَّهُ فِي الْجُمْلَةِ مَعْقُولٌ فِي صُورَةِ مَشْرُوعٍ وَلِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ ( وَأَوَّلُ رِبًا ) : أَيْ زَائِدٍ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ ( أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ) : قِيلَ : إِنَّهُ بَدَلٌ مِنْ رِبَانَا وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ خَبَرٌ وَقَوْلُهُ : ( فَإِنَّهُ ) : أَيِ الرِّبَا أَوْ رِبَا عَبَّاسٍ ( مَوْضُوعٌ كُلُّهُ ) : تَأْكِيدٌ بَعْدَ تَأْكِيدٍ ، وَالْمُرَادُ الزَّائِدُ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ . قَالَ تَعَالَى : وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ ؛ لِأَنَّ الرِّبَا هُوَ الزِّيَادَةُ .
قَالَ النَّوَوِيُّ : مَعْنَاهُ الزَّائِدُ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ وَأَنَّ الرِّبَا هُوَ الزِّيَادَةُ ، فَإِذَا وُضِعَ الرِّبَا فَمَعْنَاهُ وَضْعُ الزِّيَادَةِ ، وَالْمُرَادُ بِالْوَضْعِ الرَّدُّ وَالْإِبْطَالُ 6 ( فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ ) : أَيْ فِي حَقِّهِنَّ وَالْفَاءُ فَصِيحَةٌ ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ، أَيِ اتَّقُوا اللَّهَ فِي اسْتَبَاحَةِ الدِّمَاءِ وَنَهَبِ الْأَمْوَالِ وَفِي النِّسَاءِ ( فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ ) : أَيْ بِعَهْدِهِ مِنَ الرِّفْقِ وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ ( وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ ) : أَيْ بِشَرْعِهِ أَوْ بِأَمْرِهِ وَحُكْمِهِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : " فَانْكِحُوا " وَقِيلَ : بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ أَيْ بِالْكَلِمَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا . 8 ( وَإِنَّ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ ) : أَيْ مِنَ الْحُقُوقِ 7 ( أَنْ لَا يُوطِئْنَ ) : بِهَمْزَةٍ أَوْ بِإِبْدَالِهَا بِالتَّخْفِيفِ صِيغَةُ جَمْعِ الْإِنَاثِ مِنَ الْإِيطَاءِ أَيِ الْإِفْعَالِ قَالَهُ السِّنْدِيُّ . 9 ( فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ ) : أَيْ لَا يَأْذَنَّ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْخُلَ مَنَازِلَ الْأَزْوَاجِ ، وَالنَّهْيُ يَتَنَاوَلُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ . 0 ( فَإِنْ فَعَلْنَ ) : أَيِ الْإِيطَاءَ الْمَذْكُورَ 1 ( فَاضْرِبُوهُنَّ ) : قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ . الْمَعْنَى لَا يَأْذَنَّ لِأَحَدٍ مِنَ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ فَيَتَحَدَّثُ إِلَيْهِنَّ ، وَكَانَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ لَا يَرَوْنَ بِهِ بَأْسًا ، فَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ نَهَى عَنْ مُحَادَثَتِهِنَّ وَالْقُعُودِ إِلَيْهِنَّ ، وَلَيْسَ هَذَا كِنَايَةٌ عَنِ الزِّنَا وَإِلَّا كَانَ عُقُوبَتُهُنَّ الرَّجْمَ دُونَ الضَّرْبِ . 2 ( ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ مُجَرِّحٍ أَوْ شَدِيدٍ شَاقٍّ 3 ( وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ ) : مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ ، وَفِي مَعْنَاهُ سُكْنَاهُنَّ 4 ( وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) : بِاعْتِبَارِ حَالِكُمْ فَقْرًا وَغِنًى أَوْ بِالْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ مِنَ التَّوَسُّطِ الْمَمْدُوحِ .
5 ( وَإِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ ) : أَيْ فِيمَا بَيْنَكُمْ 6 ( مَا ) : مَوْصُولَةٌ أَوْ مَوْصُوفَةٌ 7 ( لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ ) : أَيْ بَعْدَ تَرْكِي إِيَّاهُ فِيكُمْ أَوْ بَعْدَ التَّمَسُّكِ وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهِ 8 ( إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ ) : أَيْ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ 9 ( كِتَابَ اللَّهِ ) : بِالنَّصْبِ : بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ لِمَا فِي التَّفْسِيرِ بَعْدَ الْإِبْهَامِ تَفْخِيمٌ لِشَأْنِ الْقُرْآنِ ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ بِأَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ ، أَيْ هُوَ كِتَابُ اللَّهِ ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْكِتَابِ لِأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَقَوْلِهِ : وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا فَيَلْزَمُ مِنَ الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ الْعَمَلُ بِالسُّنَّةِ 0 ( وَأَنْتُمْ مَسْئُولُونَ عَنِّي ) : أَيْ عَنْ تَبْلِيغِي وَعَدَمِهِ 1 ( فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ ) : أَيْ فِي حَقِّي 2 ( قَدْ بَلَّغْتَ ) : أَيِ الرِّسَالَةَ 3 ( وَأَدَّيْتَ ) : أَيِ الْأَمَانَةَ 4 ( وَنَصَحْتَ ) : أَيِ الْأُمَّةَ 5 ( ثُمَّ قَالَ ) : أَيْ أَشَارَ 6 ( يَرْفَعُهَا ) : حَالٌ مِنْ فَاعِلِ قَالَ أَيْ رَافِعًا إِيَّاهَا أَوْ مِنَ السَّبَّابَةِ أَيْ مَرْفُوعَةً 7 ( وَيَنْكُتُهَا ) : بِضَمِّ الْكَافِ وَالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ أَيْ يُشِيرُ بِهَا إِلَى النَّاسِ كَالَّذِي يَضْرِبُ بِهَا الْأَرْضَ . وَالنَّكْتُ ضَرْبُ الْأَنَامِلِ إِلَى الْأَرْضِ . وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْمُوَحَّدَةِ . وَفِي النِّهَايَةِ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ يُمِيلُهَا إِلَيْهِمْ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يُشْهِدَ اللَّهَ عَلَيْهِمْ . قَالَ النَّوَوِيُّ : هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ . قَالَ الْقَاضِي : هَكَذَا الرِّوَايَةُ وَهُوَ بَعِيدُ الْمَعْنَى . قَالَ قِيلَ صَوَابُهُ يَنْكُبُهَا بِبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ . قَالَ : وَرُوِّينَاهُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَبِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ ، وَبِالْمُوَحَّدَةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ التَّمَّارِ ، وَمَعْنَاهُ يُقْلِبُهَا وَيُرَدِّدُهَا إِلَى النَّاسِ مُشِيرًا إِلَيْهِمْ ، وَمِنْهُ نَكَبَ كِنَانَتَهُ إِذَا قَلَبَهَا ، انْتَهَى .
8 ( اللَّهُمَّ اشْهَدْ ) : عَلَى عِبَادِكَ بِأَنَّهُمْ قَدْ أَقَرُّوا بِأَنِّي قَدْ بَلَّغْتُ ، أَوِ الْمَعْنَى اللَّهُمَّ اشْهَدْ أَنْتَ إِذْ كَفَى بِكَ شَهِيدًا 9 ( ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ ) : أَيْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ الظُّهْرِ ، وَهَذَا الْجَمْعُ كَجَمْعِ الْمُزْدَلِفَةِ جَمْعُ نُسُكٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَجَمْعُ سَفَرٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، فَمَنْ كَانَ حَاضِرًا أَوْ مُسَافِرًا دُونَ مَرْحَلَتَيْنِ كَأَهْلِ مَكَّةَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْجَمْعُ كَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ عِنْدَهُ 0 ( وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا ) : أَيْ مِنَ السُّنَنِ وَالنَّوَافِلِ 1 ( حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ ) : أَيْ أَرْضَ عَرَفَاتٍ أَوِ اللَّامُ لِلْعَهْدِ وَالْمُرَادُ مَوْقِفُهُ الْخَاصُّ ، وَيُؤَيِّدُ قَوْلَهُ 2 ( فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ ) : بِالْحِجْرِ 3 ( إِلَى الصَّخَرَاتِ ) : بِفَتْحَتَيْنِ : الْأَحْجَارُ الْكِبَارُ . قَالَ النَّوَوِيُّ : هُنَّ حَجَرَاتٌ مُفْتَرَشَاتٌ فِي أَسْفَلِ جَبَلِ الرَّحْمَةِ وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي بِوَسَطِ أَرْضِ عَرَفَاتٍ فَهَذَا هُوَ الْمَوْقِفُ الْمُسْتَحَبُّ فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ فَلْيَتَقَرَّبْ مِنْهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ ، وَأَمَّا مَا اشْتَهَرَ بَيْنَ الْعَوَامِّ مِنَ الِاعْتِنَاءِ بِصُعُودِ جبل عرفات يوم عرفة الْجَبَلِ ، وَتَوَهُّمُهُمْ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْوُقُوفُ إِلَّا فِيهِ فَغَلَطٌ ، وَالصَّوَابُ جَوَازُ الْوُقُوفِ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَرْضِ عَرَفَاتٍ .
وَأَمَّا وَقْتُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَهُوَ مَا بَيْنَ زَوَالِ الشَّمْسِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ . وَقَالَ أَحْمَدُ : يَدْخُلُ وَقْتُ الْوُقُوفِ مِنْ فَجْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ 4 ( وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ ) : قَالَ النَّوَوِيُّ : رُوِيَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْبَاءِ وَرُوِيَ بِالْجِيمِ وَفَتْحِ الْبَاءِ : قَالَ الْقَاضِي : الْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِالْحَدِيثِ ، وَحَبْلُ الْمُشَاةِ مُجْتَمَعُهُمْ ، وَحَبْلُ الرَّمَلِ مَا طَالَ مِنْهُ وَضَخُمَ ، وَأَمَّا بِالْجِيمِ فَمَعْنَاهُ طَرِيقُهُمْ وَحَيْثُ تَسْلُكُ الرَّجَّالَةُ . وَقَالَ الطِّيبِيُّ : بِالْحَاءِ أَيْ طَرِيقُهُمُ الَّذِي يَسْلُكُونَهُ فِي الرَّمَلِ ، وَقِيلَ : الْحَبْلُ الرَّمْلُ الْمُسْتَطِيلُ ، وَإِنَّمَا أَضَافَهَا إِلَى الْمُشَاةِ ؛ لِأَنَّهَا لَا يَقْدِرُ أَنْ يَصْعَدَ إِلَيْهَا إِلَّا الْمَاشِي ، وَدُونَ حَبْلِ الْمُشَاةِ وَدُونَ الصَّخَرَاتِ اللَّاصِقَةِ بِسَفْحِ الْجَبَلِ مَوْقِفُ الْإِمَامِ ، وَبِهِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَحَرَّى الْوُقُوفَ 5 ( فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا ) : أَيْ قَائِمًا بِرُكْنِ الْوُقُوفِ رَاكِبًا عَلَى النَّاقَةِ 6 ( حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ الوقوف بعرفة ) : أَيْ أَكْثَرُهَا أَوْ كَادَتْ أَنْ تَغْرُبَ 7 ( وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا ) : أَيْ ذَهَابًا قَلِيلًا 8 ( حِينَ غَابَ الْقُرْصُ ) : أَيْ جَمِيعُهُ 9 ( فَدَفَعَ ) : أَيِ ارْتَحَلَ وَمَضَى . وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَيِ ابْتَدَأَ السَّيْرَ وَدَفَعَ نَفْسَهُ وَنَحَّاهَا ، انْتَهَى . قَالَ السِّنْدِيُّ : أَيِ انْصَرَفَ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ 0 ( وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ ) : بِتَخْفِيفِ النُّونِ مِنْ بَابِ ضَرَبَ ، أَيْ ضَمَّ وَضَيَّقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ 1 ( مَوْرِكَ رَحْلِهِ ) : الْمَوْرِكُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا مُقَدَّمُ الرَّحْلِ .
قَالَ النَّوَوِيُّ : هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُثْنِي الرَّاكِبُ رِجْلَهُ عَلَيْهِ قُدَّامَ وَاسِطَةِ الرَّحْلِ إِذَا مَلَّ مِنَ الرُّكُوبِ . وَضَبَطَهُ الْقَاضِي بِفَتْحِ الرَّاءِ قَالَ : وَهُوَ قِطْعَةُ أُدُمٍ يَتَوَرَّكُ عَلَيْهَا الرَّاكِبُ تُجْعَلُ فِي مُقَدَّمِ الرَّحْلِ شِبْهُ الْمِخَدَّةِ الصَّغِيرَةِ ، وَالرَّحْلُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مَعْرُوفٌ 2 ( السَّكِينَةَ ) : بِالنَّصْبِ أَيِ الْزَمُوهَا 3 ( كُلَّمَا أَتَى حَبْلًا مِنَ الْحِبَالِ ) : بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْبَاءِ أَيِ التَّلَّ اللَّطِيفَ مِنَ الرَّمْلِ ، الْحِبَالُ فِي الرِّمَالِ كَالْجِبَالِ فِي الْحَجَرِ 4 ( أَرْخَى لَهَا ) : أَيْ لِلنَّاقَةِ 5 ( قَلِيلًا ) : أَيْ إِرْخَاءً قَلِيلًا أَوْ زَمَانًا قَلِيلًا 6 ( حَتَّى تَصْعَدَ ) : بِفَتْحِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقِ وَضَمِّهَا ، يُقَالُ صَعِدَ فِي الْجَبَلِ وَأَصْعَدَ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : إِذْ تُصْعِدُونَ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ .
8 ( ثُمَّ أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ ) : مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ قِيلَ سُمِّيَتْ بِهِ لِمَجِيءِ النَّاسِ إِلَيْهَا فِي زُلَفٍ مِنَ اللَّيْلِ أَيْ سَاعَاتٍ قَرِيبَةٍ مِنْ أَوَّلِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ أَيْ قُرِّبَتْ 7 ( فَجَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ ) : أَيْ وَقْتَ الْعِشَاءِ 9 ( بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ ) : قَالَ النَّوَوِيُّ : إِنَّ السُّنَّةَ لِلدَّافِعِ مِنْ عَرَفَاتٍ أَنْ يُؤَخِّرَ الْمَغْرِبَ إِلَى وَقْتِ الْعِشَاءِ ، وَيَكُونُ هَذَا التَّأْخِيرُ بِنِيَّةِ الْجَمْعِ ، ثُمَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْمُزْدَلِفَةِ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ، لَكِنْ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٌ أَنَّهُ يَجْمَعُ بِسَبَبِ النُّسُكِ ، وَيَجُوزُ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ وَمِنًى وَغَيْرِهِمْ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ جَمَعَ بِسَبَبِ السَّفَرِ كَمَا تَقَدَّمَ 0 ( وَلَمْ يُسَبِّحْ ) : أَيْ يُصَلِّ 1 ( بَيْنَهُمَا ) : أَيْ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ 2 ( شَيْئًا ) : أَيْ مِنَ النَّوَافِلِ وَالسُّنَنِ 3 ( ثُمَّ اضْطَجَعَ ) : أَيْ لِلنَّوْمِ 4 ( حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ ) : وَالْمَبِيتُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ سُنَّةٌ ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ ، وَقِيلَ وَاجِبٌ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَقِيلَ : رُكْنٌ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهِ كَالْوُقُوفِ وَعَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَجِلَّةِ . وَقَالَ مَالِكٌ : النُّزُولُ وَاجِبٌ وَالْمَبِيتُ سُنَّةٌ وَكَذَا الْوُقُوفُ بَعْدَهُ ، قَالَ الْقَارِيُّ : ثُمَّ الْمَبِيتُ بِمُعْظَمِ اللَّيْلِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ بِحُضُورِ لَحْظَةٍ بِالْمُزْدَلِفَةِ 5 ( حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ ) : أَيْ طَلَعَ الْفَجْرُ فَصَلَّى بِغَلَسٍ بمزدلفة 6 ( بِنِدَاءٍ ) : أَيْ أَذَانٍ 7 ( حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ ) .
قَالَ النَّوَوِيُّ : الْمَشْعَرُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا قُزَحُ وَهُوَ جَبَلٌ مَعْرُوفٌ فِي الْمُزْدَلِفَةِ . وَهَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ أَنَّ الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ قُزَحُ . وَقَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ : الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ جَمِيعُ الْمُزْدَلِفَةِ ، انْتَهَى كَلَامُهُ . قَالَ الْقَارِيُّ : وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الْمُزْدَلِفَةِ وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ مَا فِي الْبُخَارِيِّ : كَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ فَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ .
8 ( فَحَمِدَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ ) : أَيْ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ 9 ( وَهَلَّلَهُ ) : أَيْ قَالَ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ 0 ( وَحْدَهُ ) : أَيْ قَالَ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ إِلَخْ 5 ( حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا ) : أَيْ أَضَاءَ الْفَجْرُ إِضَاءَةً تَامَّةً ( ثُمَّ دَفَعَ ) : أَيِ انْصَرَفَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى 3 ( وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ ) : أَيْ بَدَلَ أُسَامَةَ 4 ( وَكَانَ رَجِلًا ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ لَمْ يَكُنْ شَدِيدَ الْجُعُودَةِ وَلَا شَدِيدَ السُّبُوطَةِ بَلْ بَيْنَهُمَا 6 ( وَسِيمًا ) : أَيْ حَسَنًا 7 ( مَرَّ الظُّعُنُ ) : بِضَمِّ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ جَمْعُ ظَعِينَةٍ كَالسُّفُنِ جَمْعُ سَفِينَةٍ ، وَهِيَ الْمَرْأَةُ فِي الْهَوْدَجِ 8 ( حَتَّى أَتَى مُحَسِّرًا ) : مُحَسِّرٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِ السِّينِ الْمُشَدَّدَةِ الْمُهْمَلَتَيْنِ ، سُمِّيَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ فِيلَ أَصْحَابِ الْفِيلِ حُسِرَ فِيهِ أَيْ أَعْيَا وَكَلَّ وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - : يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ 9 ( فَحَرَّكَ قَلِيلًا ) : أَيْ أَسْرَعَ نَاقَتَهُ زَمَانًا قَلِيلًا أَوْ مَكَانًا قَلِيلًا ، فَهِيَ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ السَّيْرِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ .
قَالَ الْعُلَمَاءُ : يُسْرِعُ الْمَاشِي وَيُحَرِّكُ الرَّاكِبُ دَابَّتَهُ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ قَدْرَ رَمْيَةِ حَجَرٍ 0 ( ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الدفع من مزدلفة ) : فَفِيهِ أَنَّ سُلُوكَ هَذَا الطَّرِيقِ فِي الرُّجُوعِ مِنْ عَرَفَاتٍ سُنَّةٌ ، وَهُوَ غَيْرُ الطَّرِيقِ الَّذِي ذَهَبَ فِيهِ إِلَى عَرَفَاتٍ لِيُخَالِفَ الطَّرِيقَ تَفَاؤُلًا بِتَغَيُّرِ الْحَالِ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دُخُولِ مَكَّةَ حِينَ دَخَلَهَا مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا وَخَرَجَ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى 1 ( الَّذِي [ ص: 299 ] يُخْرِجُكَ ) : مِنَ الْإِخْرَاجِ 2 ( إِلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى ) : هِيَ الْجَمْرَةُ الْأُولَى الَّتِي قَرِيبُ مَسْجِدِ الْخَيْفِ 3 ( حَتَّى أَتَى ) : عَطْفٌ عَلَى سَلَكَ أَيْ حَتَّى وَصَلَ 4 ( الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ ) : وَلَعَلَّ الشَّجَرَةَ إِذْ ذَاكَ كَانَتْ مَوْجُودَةً هُنَاكَ ، وَأَمَّا الْجَمْرَةُ الْكُبْرَى فَهِيَ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ وَهِيَ الْجَمْرَةُ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ . وَفِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ لِلْحَاجِّ إِذَا دَفَعَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ فَوَصَلَ مِنًى أَنْ يَبْدَأَ بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ، وَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا قَبْلَ رَمْيِهَا ، وَيَكُونُ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِهِ ، 5 ( فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا مِثْلُ حَصَى الْخَذْفِ ) : بِالْخَاءِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَتَيْنِ الرَّمْيُ بِرُءُوسِ الْأَصَابِعِ . قَالَ الطِّيبِيُّ : بَدَلٌ مِنَ الْحَصَيَاتِ وَهُوَ بِقَدْرِ حَبَّةِ الْبَاقِلَّا . كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ .
قَالَ النَّوَوِيُّ : فِيهِ أَنَّ الرَّمْيَ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ ، وَأَنَّ قَدْرَهُنَّ بِقَدْرِ حَصَى الْخَذْفِ ، وَهُوَ نَحْوُ حَبَّةِ الْبَاقِلَّا ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ أَكْبَرَ وَلَا أَصْغَرَ ، فَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ أَوْ أَصْغَرَ أَجْزَأَهُ بِشَرْطِ كَوْنِهِ حَجَرًا ، وَيُسَنُّ التَّكْبِيرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ ، وَيَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْحَصَيَاتِ فَيَرْمِيهِنَّ وَاحِدَةً وَاحِدَةً 6 ( فَرَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي ) : بَيَانٌ لِمَحَلِّ الرَّمْيِ . وَفِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَقِفَ لِلرَّمْيِ فِي بَطْنِ الْوَادِي بِحَيْثُ يَكُونُ مِنًى وَعَرَفَاتٌ وَالْمُزْدَلِفَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَمَكَّةُ عَنْ يَسَارِهِ ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ 7 ( وَأَمَرَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ) : أَيْ بَقِيَّةَ الْبُدْنِ 8 ( فَنَحَرَ ) : أَيْ عَلِيٌّ 9 ( مَا غَبَرَ ) : أَيْ مَا بَقِيَ مِنَ الْمِائَةِ 0 ( وَأَشْرَكَهُ ) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيًّا فِي هَدْيِهِ .
قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ شَارَكَهُ فِي نَفْسِ الْهَدْيِ ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : وَعِنْدِي لَمْ يَكُنْ تَشْرِيكًا حَقِيقَةً بَلْ أَعْطَاهُ قَدْرًا يَذْبَحُهُ . قَالَ : وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحَرَ الْبُدْنَ الَّتِي جَاءَتْ مَعَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ ، وَكَانَتْ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ ، وَأَعْطَى عَلِيًّا الْبُدْنَ الَّتِي جَاءَتْ مَعَهُ مِنَ الْيَمَنِ وَهِيَ تَمَامُ الْمِائَةِ انْتَهَى .
قَالَ الْقَارِيُّ : وَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَشْرَكَ عَلِيًّا فِي ثَوَابِ هَدْيِهِ ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ يُعْطَى حُكْمُ الْأُضْحِيَّةِ . ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ : وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تَعْجِيلِ ذَبْحِ الْهَدَايَا وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَلَا يُؤَخِّرُ بَعْضَهَا إِلَى أَيَّامِ التَّشْرِيقِ 1 ( بِبَضْعَةٍ ) : بِفَتْحِ الْبَاءِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنَ اللَّحْمِ 2 ( فَجُعِلَتْ ) : أَيِ الْقِطَعُ 3 ( فِي [ ص: 300 ] قِدْرٍ ) : الْقِدْرُ بِالْكَسْرِ مَعْلُومٌ يُؤَنَّثُ 4 ( فَأَكَلَا ) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - 5 ( مِنْ لَحْمِهَا ) : الضَّمِيرُ يَعُودُ إِلَى الْقِدْرِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْهَدَايَا 6 ( وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا ) : أَيْ مِنْ مَرَقِ الْقِدْرِ أَوْ مَرَقِ لُحُومِ الْهَدَايَا ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْأَكْلِ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ ، وَقِيلَ : وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَكُلُوا مِنْهَا " 7 ( ثُمَّ أَفَاضَ ) : أَيْ أَسْرَعَ 8 ( إِلَى الْبَيْتِ ) : أَيْ بَيْتِ اللَّهِ لِطَوَافِ الْفَرْضِ ، وَيُسَمَّى طَوَافُ الْإِفَاضَةِ وَالرُّكْنِ .
وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَمِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُجَوِّزُ الْإِفَاضَةَ بِنِيَّةِ غَيْرِهِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، حَيْثُ قَالَ لَوْ نَوَى غَيْرَهُ كَنَذْرٍ أَوْ وَدَاعٍ وَقَعَ عَنِ الْإِفَاضَةِ 9 ( فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ ) : قَالَ النَّوَوِيُّ : فِيهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ ، فَأَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ ، ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ ، فَحُذِفَ ذِكْرُ الطَّوَافِ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمَكَّةَ فَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفَاضَ يَوْمَ النَّحْرِ فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى .
وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَافَ لِلْإِفَاضَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ ، ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ بِمَكَّةَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى ، فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ بِأَصْحَابِهِ حِينَ سَأَلُوهُ ذَلِكَ فَيَكُونُ مُتَنَفِّلًا بِالظُّهْرِ الثَّانِيَةِ الَّتِي بِمِنًى ، انْتَهَى .
قَالَ الْقَارِيُّ : أَوْ يُقَالُ الرِّوَايَتَانِ حَيْثُ تَعَارَضَتَا فَتَتَرَجَّحُ صَلَاتُهُ بِمَكَّةَ ؛ لِكَوْنِهَا أَفْضَلُ وَيُؤَيِّدُهُ ضِيقُ الْوَقْتِ ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَجَعَ قُبَيْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ الْمَشْعَرِ وَرَمَى بِمِنًى وَنَحَرَ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ ، وَطَبَخَ لَحْمَهَا وَأَكَلَ مِنْهَا ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى مَكَّةَ وَطَافَ وَسَعَى فَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَدْرَكَهُ الْوَقْتُ بِمَكَّةَ وَمَا كَانَ يُؤَخِّرُهَا عَنْ وَقْتِ الْمُخْتَارِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ ، وَلَا ضَرُورَةَ هُنَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
0 ( بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ) : وَهُمْ أَوْلَادُ الْعَبَّاسِ وَجَمَاعَتُهُ ؛ لِأَنَّ سِقَايَةَ الْحَاجِّ كَانَتْ وَظِيفَتَهُ 1 ( يَسْقُونَ ) : أَيْ مَرَّ عَلَيْهِمْ وَهُمْ يَنْزِعُونَ الْمَاءَ مِنْ زَمْزَمَ وَيَسْقُونَ النَّاسَ 2 ( عَلَى زَمْزَمَ ) .
: قَالَ النَّوَوِيُّ : مَعْنَاهُ يَغْرِفُونَ بِالدِّلَاءِ وَيَصُبُّونَهُ فِي الْحِيَاضِ وَنَحْوِهَا فَيُسَبِّلُونَهُ ( فَقَالَ انْزِعُوا ) : أَيِ الْمَاءَ وَالدِّلَاءَ 3 ( بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ) : يَعْنِي الْعَبَّاسَ وَمُتَعَلِّقِيهِ بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ ، دَعَا لَهُمْ بِالْقُوَّةِ عَلَى النَّزْعِ وَالِاسْتِقَاءِ أَيْ إِنَّ هَذَا الْعَمَلَ عَمَلٌ صَالِحٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ ؛ لِكَثْرَةِ ثَوَابِهِ . وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ لَهُمْ 4 ( فَلَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ ) : أَيْ لَوْلَا مَخَافَةُ كَثْرَةِ [ ص: 301 ] الِازْدِحَامِ عَلَيْكُمْ بِحَيْثُ تُؤَدِّي إِلَى إِخْرَاجِكُمْ عَنْهُ رَغْبَةً فِي النَّزْعِ قَالَهُ الْقَارِيُّ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ : مَعْنَاهُ لَوْلَا خَوْفِي أَنْ يَعْتَقِدَ النَّاسُ ذَلِكَ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ فَيَزْدَحِمُونَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَغْلِبُونَكُمْ وَيَدْفَعُونَكُمْ عَنِ الِاسْتِقَاءِ ، لَاسْتَقَيْتُ مَعَكُمْ لِكَثْرَةِ فَضِيلَةِ هَذَا الِاسْتِقَاءِ ( فَنَاوَلُوهُ ) : أَيْ أَعْطَوْهُ ( دَلْوًا ) : رِعَايَةً لِلْأَفْضَلِ ( فَشَرِبَ مِنْهُ ) : أَيْ مِنَ الدَّلْوِ أَوْ مِنَ الْمَاءِ .
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ : وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ بِنَحْوِهِ مُطَوَّلًا وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مُخْتَصَرًا . وَفِي رِوَايَةٍ أَدْرَجَ فِي الْحَدِيثِ عِنْدَ قَوْلِهِ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى قَالَ : فَقَرَأَ فِيهَا بِالتَّوْحِيدِ و قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ . وَفِي رِوَايَةٍ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعَتَمَةَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ .