باب غزوة خيبر 2
بطاقات دعوية
عن أبي موسى الأشعري قال: لما غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر -أو قال: لما توجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (125) - أشرف الناس على واد، فرفعوا أصواتهم (وفى راوية: فجعلنا لا نصعد شرفا، ولا نعلو شرفا، ولا نهبط فى واد, إلا رفعنا أصواتنا) بالتكبير (وفى رواية: فكنا إذا أشرفنا على واد؛ هللنا وكبرنا 4/ 16): الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله , [قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم على بغلته 7/ 169] , [قال: فدنا منا - صلى الله عليه وسلم] , فقال: «[يا أيها الناس!] اربعوا (126) على أنفسكم، [فـ] إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنكم (وفى رواية: ولكن 7/ 162) تدعون سميعا [بصيرا 8/ 168] قريبا، وهو معكم (وفى رواية: إنه سميع قريب) "، وأنا خلف دابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسمعنى وأنا أقول [فى نفسى]: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال لي: «يا عبد الله بن قيس!». قلت: لبيك رسول الله! قال:
«ألا أدلك على كلمة من كنز من كنوز الجنة». قلت: بلى يا رسول الله! فداك أبى وأمى. قال: "لا حول ولا قوة إلا بالله".
الذِّكرُ له فَوائدُ عَظيمةٌ؛ فبِهِ تُفتَحُ أبْوابُ الجِنانِ، ويُطرَدُ الشَّيطانُ، ويُرطَّبُ اللِّسانُ، وتَطمئِنُّ به القُلوبُ، إلى غيرِ ذلك ممَّا يُنعِمُ اللهُ به على عِبادِه؛ جَزاءً على ذِكرِه.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ أبو مُوسى الأشْعَريُّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه لمَّا تَوجَّهَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى خَيْبرَ غازيًا، وكان هذا في السَّنةِ السَّابعةِ مِنَ الهِجْرةِ، وخَيْبرُ قَرْيةٌ كانت يَسكُنُها اليَهودُ، وكانت ذاتَ حُصونٍ ومَزارِعَ على بُعدِ 173 كيلو تَقْريبًا مِن المَدينةِ إلى جِهةِ الشَّامِ، وفي أثْناءِ رُجوعِهم منها بعْدَ أنْ منَّ اللهُ عزَّ وجلَّ عليهم بالفَتحِ، أشرَفَ النَّاسُ على وادٍ، وهو المُنخَفِضُ منَ الأرضِ، فرفَعَ النَّاسُ أصْواتَهم بالتَّكْبيرِ والتَّهْليلِ، فقال لهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «ارْبَعوا على أَنفُسِكم»، أيِ: ارْفُقوا بأنفُسِكم، «إنَّكم لا تَدْعونَ أصَمَّ ولا غائبًا، إنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وهو معكُمْ» يَعني: مَن تَدْعونَه هو السَّميعُ البَصيرُ، يَسمَعُ سِرَّكم ونَجْواكم، ولا يَخْفى عليه شَيءٌ مِن قَولِكم، قَريبٌ مِنكم، بلْ هو أقرَبُ إليكمْ مِن حَبْلِ الوَريدِ، وهو معكم بعِلمِه وإحاطتِه، وفي هذا إشارةٌ يَأمُرُهم فيها بخَفضِ أصْواتِهم.
ولا تَعارُضَ بيْن هذا الحديثِ الذي أمَرَ فيه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعَدَمِ رفْعِ الصَّوتِ بالذِّكرِ، وحَديثِ التِّرمذيِّ وابنِ ماجَه عن أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه: «أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سُئِلَ: أيُّ الحجِّ أفضَلُ؟ قال: العَجُّ والثَّجُّ»، والعَجُّ: رفْعُ الصَّوتِ بالتَّلبيةِ، والثَّجُّ: نحْرُ البُدْنِ؛ لأنَّه إنَّما أمَرَ برفْعِ الصَّوتِ بالتَّلبيةِ لكَونِها مِن شَعائرِ الحجِّ، كسائرِ الأفعالِ التي يَفعَلُها الحاجُّ؛ مِن حَلْقِ الرَّأسِ عندَ التَّحلُّلِ، ومِن اجتنابِ مَحظوراتِ الإحرامِ، فكلُّها مِن شَعائرِ الحجِّ، فأمَرَ بإظهارِها، بخِلافِ مُطْلَقِ الذِّكرِ الذي دلَّ عليه حَديثُ أبي مُوسى رَضيَ اللهُ عنه، فليس مِن الشَّعائرِ، فلا يُشرَعُ فيه رفْعُ الصَّوتِ؛ لعَدَمِ ما يَسْتدعي ذلك.
ويَحْكي أبو مُوسَى رَضيَ اللهُ عنه أنَّه كان سائرًا خَلفَ دابَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فسَمِعَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو يَقولُ: «لا حَولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ»، ومعناها: لا حَرَكةَ ولا حِيلةَ، ولا اسْتِطاعةَ إلَّا بمَشيئةِ اللهِ تعالَى، وإرادَتِه، وقُدرَتِه، وقيلَ: مَعْناه: لا حَولَ في دَفعِ شرٍّ، ولا قوَّةَ في تَحْصيلِ خَيرٍ إلَّا باللهِ، وقيلَ: لا حَولَ عن مَعْصيةِ اللهِ إلَّا بعِصمَتِه، ولا قوَّةَ على طاعَتِه إلَّا بمَعونَتِه؛ فهي كَلمةُ اسْتِسلامٍ وتَفْويضٍ إلى اللهِ تعالَى، وإذْعانٍ واعْتِرافٍ له بأنَّه لا خالِقَ غيرُه، ولا ربَّ سِواه، ولا رادَّ لأمْرِه، ولا مُعقِّبَ لحُكمِه، وأنَّ العبدَ لا يَملِكُ شَيئًا، وأنَّ اللهَ مالِكُ عِبادِه، يَفعَلُ فيهم كلَّ ما أرادَه.
فبيَّنَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لأبي مُوسى الأشْعَريِّ رَضيَ اللهُ عنه فَضلَ هذه الكَلمةِ فقال له: «ألَا أدُلُّكَ على كَلمةٍ مِن كَنزٍ مِن كُنوزِ الجنَّةِ؟»؛ أي: كالكَنزِ في كَونِها ذَخيرةً نَفيسةً، يُتوَقَّعُ الانْتِفاعُ منها، فقال أبو مُوسى رَضيَ اللهُ عنه: «بَلى يا رَسولَ اللهِ، فِداكَ أبي وأُمِّي! فقال: لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلَّا باللهِ». فهي كَنزٌ مِن كُنوزِ الجنَّةِ؛ لِمَا فيها منَ التَّبرُّؤِ مِن القُوَّةِ والحِيلةِ، والإقْرارِ بأنَّه لا يُوصَلُ إلى تَدْبيرِ أمرٍ، وتَغْييرِ حالٍ؛ إلَّا بمَشيئةِ اللهِ وعَوْنِه.
وفي الحَديثِ: أنَّه لا يَنْبَغي للإنْسانِ أنْ يَشُقَّ على نفْسِه في أداءِ العِباداتِ.
وفيه: اسْتِخدامُ أُسلوبِ السُّؤالِ والجَوابِ في التَّعليمِ.
وفيه: اسْتِخدامُ أُسلوبِ التَّشْبيهِ في التَّعليمِ.
وفيه: مَشروعيَّةُ ذِكرِ اللهِ تعالَى في السَّفرِ، كلَّما صَعِدَ أو هَبَطَ.