باب غزوة موتة من أرض الشأم 1
بطاقات دعوية
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة موتة زيد بن حارثة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة".
قال عبد الله: كنت فيهم في تلك الغزوة، فالتمسنا جعفر بن أبي طالب، فوجدناه في القتلى، ووجدنا ما في جسده (وفي رواية: فعددت به) بضعا وتسعين من طعنة، [وضربة]، ورمية.
صدَقَ أصْحابُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما عاهَدوا اللهَ عليه، فواصَلوا الجِهادَ حِسْبةً للهِ، وإعْلاءً لرايَتِه، وبَذَلوا في ذلك النَّفْسَ والنَّفيسَ، حتَّى فتَحَ اللهُ عليهمُ البُلدانَ، ودخَلَ النَّاسُ في دِينِ اللهِ أفْواجًا، ففازوا بخَيرَيِ الدُّنْيا والآخِرةِ.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ عَبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عيَّنَ زَيدَ بنَ حَارِثةَ رَضيَ اللهُ عنه أميرًا على الجَيشِ في غَزْوةِ مُؤْتةَ، وهي مِنطَقةٌ تقَعُ اليومَ بالأُردُنِّ ضِمنَ لواءِ المَزارِ الجَنوبيِّ في مُحافَظةِ الكَرَكِ، وتَبعُدُ عن مَدينةِ الكَرَكِ مَسافةَ 12 كم، وتَبعُدُ 140 كم جنوبَ العاصِمةِ الأُردُنِّيَّةِ عَمَّانَ، وكانت في العامِ الثَّامِنِ مِن الهِجْرةِ، وكان عِدَّةُ المُسلِمينَ ثَلاثةَ آلافٍ، وعِدَّةُ الكافِرينَ مِئتَيْ ألفٍ: مِئةُ ألفٍ مِن الرُّومِ، ومِئةُ ألفٍ مِن نَصارى العرَبِ، وكان سَببُ هذه الغَزْوةِ: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعَثَ الحارِثَ بنَ عُمَيرٍ الأزْديَّ رَضيَ اللهُ عنه إلى ملِكِ بُصْرى بكِتابٍ، فمَسَكَه ورَبَطَه، وضرَبَ عُنُقَه، وبُصْرى تقَعُ في مِنطَقةٍ على أطْرافِ الشَّامِ، وهي تقَعُ اليومَ ضِمنَ حُدودِ الأُردُنِّ لتَضُمَّ عَمَّانَ، والزَّرْقاءَ، ومَأْدَبا، والسَّلْطَ، فاشتَدَّ الأمرُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ودَعا النَّاسَ للقِتالِ، وأوْصاهم: إنْ قُتِلَ زَيدُ بنُ حارثةَ رَضيَ اللهُ عنه، فجَعفَرُ بنُ أبي طالبٍ رَضيَ اللهُ عنه يَتوَلَّى القيادةَ بعدَ استِشْهادِه، ويكونُ أميرَهم، وإنْ قُتِلَ جَعفَرٌ رَضيَ اللهُ عنه، فعَبدُ اللهِ بنُ رَواحةَ رَضيَ اللهُ عنه يَتوَلَّاها مِن بَعدِه.
فلمَّا وقَعَتِ المَعرَكةُ قُتِلَ هؤلاء الثَّلاثةُ على التَّرْتيبِ المَذْكورِ، وذكَرَ عَبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّه كان مَوجودًا في تلك الغَزْوةِ، فبَحَثوا عن جَعفَرِ بنِ أبي طالِبٍ، فوَجَدوه بيْنَ القَتْلى، ووَجَدوا في جَسَدِه بِضعًا وتِسْعينَ؛ مِن طَعْنةٍ برُمحٍ، ورَمْيةٍ بسَهمٍ، والبِضعُ هو العدَدُ من ثَلاثٍ إلى تِسعٍ.
ولمَّا مات الثَّلاثةُ الذين عيَّنَهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لقِيادةِ الجَيشِ، تَولَّى بعْدَهمُ خالدُ بنُ الوَليدِ رَضيَ اللهُ عنه دونَ أنْ يَعهَدَ إليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالإمارةِ بها، حينَ رَأى المَصلَحةَ في ذلك، فانْحازَ خالِدٌ رَضيَ اللهُ عنه بجَيشِ المُسلِمينَ، أي: تَرَكوا مَراكِزَهم يَتجهَّزُ بهم للانْسِحابِ حِفاظًا على قُوَّةِ وعَتادِ المُسلِمينَ، وقابَلَ جَيشُ الرُّومِ انْسحابَ المُسلِمينَ بانْسحابٍ منهم أيضًا على كَثرةِ عدَدِهم وعُدَّتِهم؛ وذلك أنَّ جَيشَ المُسلِمينَ قدْ أثخَنَ فيهمُ القَتلَ والجِراحَ؛ فقد ورَدَ في البُخاريِّ: أنَّ خالدًا رَضيَ اللهُ عنه قال: «لقدِ انقَطَعَت في يَدي يَومَ مُؤْتةَ تِسْعةُ أسْيافٍ، فما بَقيَ في يَدي إلَّا صَفيحةٌ يَمانيَةٌ»، فانصرَفَ خالدٌ رَضيَ اللهُ عنه بالنَّاسِ، فتمَكَّنَ من الانْسِحابِ بمَن معَه منَ المُسلِمينَ، فعَدَّ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذلك فَتْحًا وانْتِصارًا.
وفي الحَديثِ: ما يدُلُّ على شَجاعةِ جَعفَرٍ رَضيَ اللهُ عنه، وحُسنِ بَلائِه في الإسْلامِ.
وفيه: مَشْروعيَّةُ تَولِّي قيادةِ الجَيشِ لأكثَرَ مِن رَجلٍ على التَّرْتيبِ إذا نصَّ الإمامُ على ذلك.