باب فتنة المال2
سنن ابن ماجه
حدثنا عمرو بن سواد المصري، أخبرني عبد الله بن وهب، أخبرنا عمرو بن الحارث، أن بكر بن سوادة حدثه أن يزيد بن رباح حدثه عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم، أي قوم أنتم؟ " قال: عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أوغير ذلك، تتنافسون ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون ثم تتباغضون، أو نحو ذلك. ثم تنطلقون في مساكين المهاجرين، فتجعلون بعضهم على رقاب بعض" (1)
كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حَريصًا عَلى حِمايةِ أصحابِه وأُمَّتهِ مِن الدُّنيا، والصِّراعِ عَلى مَكاسبِها الدَّنيئَةِ؛ لأنَّ اللهَ سُبحانَه وتَعالَى أعْلَمَه بما سيَكونُ مِن فَتحِ البلادِ على يَدَي المسْلِمين بعْدَه، وبما سيَفتَحُ اللهُ عليهم مِن الغنائمِ والأموالِ، فعَلَّمهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سُبلَ النَّجاةِ.
وفي هذا الحديثِ يَسألُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أصْحابَه رَضيَ اللهُ عنهم يومَ أنْ يَفتَحَ اللهُ عليهم فارِسَ والرُّومَ، بالنَّصرِ والغَلَبةِ عليهم، وفارسُ والرُّومُ كانَتا مَمْلكتينِ عَظيمتينِ حينئذٍ، «أيُّ قَومٍ أَنتُم؟» أي: ما يَكونُ حَالُكم إذا حَدثَ ذَلكَ مِن رَخاءِ العَيشِ والغِنى؟ وهذا استفهامٌ يَشوبُه إخبارٌ منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن أمرٍ قبْلَ وُقوعِه وأنَّه سيَقَعُ، وقدْ وقَعَ فِعلًا على نَحوِ ما أخبَرَ به صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فكان ذلك مُعجِزةً للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بإخبارِه ببَعضِ الغيبِ، فكأنَّه قال: أتَبْقَون على ما أنتُم عليه أو تَتغيَّرُ بكم الحالُ؟ فَقال عَبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوفٍ رَضيَ اللهُ عنه: «نَقولُ كَما أَمَرَنا اللهُ»، أي: نَحمَدُه ونَشكُرُه ونَسألُه المزيدَ مِن فَضلِه، فأخبَرَهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنَّهم لا يَبْقَون على تلكَ الحالِ، وأنَّها تَتغيَّرُ بهم الدُّنيا، فَقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «أَوْ غَيرَ ذَلك»، أي: تَفعَلون غَيرَ ذلك، أو يكونُ حالُكم غيرَ ذلِك الحالِ، بلْ «تَتنافَسونَ» والتَّنافُسُ إلى الشَّيءِ المُسابقةُ إليه، وهُو أَوَّلُ دَرجاتِ الحَسدِ، ثُمَّ تَدابَرون وتتَقاطَعون ويَهجُرُ بعضُهم بعضًا، ويُولِّي كلُّ واحدٍ منكم دُبرَه إلى الآخَرِ مُعرِضًا عنه، ويقَعُ بيْنكم التَّباغضُ والكُرهُ المتبادَلُ لبَعضِكم بعضًا، فَكأنَّ المُدابرَةَ أَدنَى مِن المُباغضَةِ، وَقد تَكونُ المُدابرَةُ والإِعراضُ مَع بَقاءِ مَودَّةٍ، وتَكونُ المُباغضَةُ بعدَ هَذا؛ ولهذا رُتِّبتْ في الحديث، ثمَّ تَثبُتُ البَغضاءُ في قُلوبِهم وتَتراكَمُ فيها حتَّى يكونَ عنها الخلافُ والقتالُ والهلاكُ كما وَقَع.
وقَولُه: «ثُمَّ تنَطلِقون في مَساكينِ المُهاجِرينَ، فتَجعَلون بَعضَهُم عَلى رِقابِ بَعضٍ»، يَعني: أنَّه إذا وَقَع التَّنافسُ والتَّحاسدُ والتَّباغضُ، حَمَلهم ذلك على أنْ يَأخُذَ القويُّ ما أفاءهُ اللهُ تعالَى على المسكينِ الَّذي لا يَقدِرُ على مُدافَعتِه، فيَمنَعُه عنه ظُلمًا، وهذا بمُقْتضى التَّنافُسِ والتَّحاسدِ والتَّباغُضِ.
وفي الحديثِ: ذمُّ المالِ إذا كان يُؤدِّي إلى التَّقاطعِ والتَّحاسدِ والتَّباغُضِ.