باب فضل الزهدفي الدنيا 2
بطاقات دعوية
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، قال : جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر ، وجلسنا حوله ، فقال : (( إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها )) متفق عليه .
شاء الله تعالى وقضى بحكمته البالغة أن يجعل الدنيا دار ابتلاء واختبار؛ فمنهم من يغتر بزينتها ويتنافس عليها، ومنهم من يعلم حقيقتها، فينزوي عنها ويزهد فيها، ويرغب في الآخرة وما عند الله
وفي هذا الحديث يروي أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم على المنبر في مسجده والناس حوله، فبين لهم أنه يتخوف على أمته من حسن الدنيا وجمالها، وما يفتح عليهم من زهرتها، يعني: خيرها، ويقصد به المال، وشبه ما سيفتح من الدنيا بالزهرة؛ لأنها سريعة الذبول، وكذا الدنيا سريعة التغير والأفول
فسأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أويأتي الخير بالشر؟» كأن الرجل أشكل عليه أن يأتي الشر من داخل الخير، أو بسببه، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلم الصحابة أنه صلى الله عليه وسلم يوحى إليه، وما إن انفصل عنه صلى الله عليه وسلم الوحي حتى مسح عن نفسه «الرحضاء»، يعني: العرق، وكان الوحي إذا نزل على النبي صلى الله عليه وسلم يتصبب عرقا، ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صاحب السؤال: أين هو؟ وكأن رسول الله أثنى على الرجل وحمده على حسن سؤاله، ثم أجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الخير لا يأتي بالشر؛ يعني أن المال إذا كسب من وجهه وفعل به ما أمرهم الله به فيكون من باب أن الخير لا يأتي إلا بالخير، وهذا بالنسبة للخير المحض، كالإسلام، فكله خير، ولكن هناك أنواعا من الخير غير الخالص قد تأتي بالشر، مثل المال؛ فإنه خير، ولكنه قد يأتي بالشر إذا اكتسبه من محرم، أو أساء في إنفاقه، ونحوه، كبعض المكاسب التي أصلها الخير ولكن تكون شرا إذا كانت الوسيلة إليها شرا أو كان مآلها شرا
ثم ضرب صلى الله عليه وسلم مثالين يوضح بهما كيف أن المال خير يمكن أن يأتي بالشر، ويمكن أن يأتي بالخير؛ فالمثال الأول: نموذج للخير عندما ينقلب شرا، وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «إن مما ينبت الربيع» -وهو الشهر المشهور بالإنبات والزروع، وقيل: المراد به هنا النهر الصغير- «يقتل أو يلم»، أي: يقرب من القتل؛ فما تنبته الأرض يكون خيرا، ومع ذلك فمنه ما يقتل البهيمة أو يضرها ضررا يقارب الموت، مثل البقول التي تستكثر منها الماشية فتهلكها أكلا، وتهلك بسببه. وهذا المثل يعني أن الاستكثار من المال والخروج من حد الاقتصاد فيه ضار، كما أن الاستكثار من المأكل مسقم، وضرب هذا مثلا للحريص على جمع المال، المانع له من حقه، والربيع تنبت فيه أحرار العشب التى تستلذها الماشية فتستكثر منها حتى تنتفخ بطونها فتهلك
والمثال الثاني: نموذج للخير، إذا أحسن التعامل معه فلن يأتي إلا بخير، وهذا هو المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم: «إلا آكلة الخضراء؛ أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس، فثلطت وبالت، ورتعت»، وآكلة الخضراء هي الماشية ونحوها، فالخضر هو اسم لما اخضر من الكلأ الذي لم يصفر، ترتع منها شيئا فشيئا، فلا تستكثر منه، ولا يحبس الأكل فيها، فلا تصاب بأذى، ويصور رسول الله صلى الله عليه وسلم منظرها بعد أن تأكل من هذا الخير وتهنأ به: حتى إذا امتلأت بطونها شبعا وعظم جنباها، استقبلت الشمس منتفعة بدفئها، وجاءت وذهبت، ثم يخرج رجيعها عفوا من غير مشقة، فيبقى نفع ما أكلت، ويخرج فضولها، ولا تتأذى بها. وهذا مثال للمقتصد في جمع المال، المكتسب إياه من حل، والمنفق إياه في الخير.
ثم بين صلى الله عليه وسلم أن هذا المال محبوب مرغوب ترغبه النفس، وتحرص عليه بطبيعتها، كما تحب الفاكهة أو النباتات الخضراء النضرة، الشهية المنظر، الحلوة المذاق، ومن أعطيه فأخرج منه زكاة ماله على المسكين واليتيم وابن السبيل، فهو نعم الصاحب الذي يشهد له يوم القيامة، وأما من أخذه بغير حقه فإن الله ينزع منه البركة، ويسلب صاحبه القناعة، فيصبح فقير النفس دائما، ولو أعطي كنوز الأرض، وكان كالذي يأكل ولا يشبع؛ فهو كالملهوف الذي لا يشبع من الطعام مهما أكل منه، ويأتي شاهدا عليه يوم القيامة بحرصه، وإسرافه، وإنفاقه فيما لا يرضي الله عز وجل
وفي الحديث: جلوس الإمام على المنبر عند الموعظة، وجلوس الناس حوله.
وفيه: ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأفهام.
وفيه: اللوم عند خوف كراهة المسألة، والاعتراض إذا لم يكن موضعه.
وفيه: أن المكتسب للمال من غير حله غير مبارك له فيه.
وفيه: أن للعالم أن يحذر من يجالسه من فتنة المال وغيره، وتنبيههم على مواضع الخوف من الافتتان به.
وفيه: الحض على الاقتصاد في المال، والحث على الصدقة وترك الإمساك.
وفيه: بيان أن السنة النبوية من الوحي غير المتلو.