باب فضل الفقر1
سنن ابن ماجه
حدثنا محمد بن الصباح، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، حدثني أبي
عن سهل بن سعد الساعدي، قال: مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما تقولون في هذا الرجل؟ " قالوا: رأيك في هذا، نقول: هذا من أشراف الناس، هذا حري إن خطب أن يخطب، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يسمع لقوله، فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومر رجل آخر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما تقولون في هذا؟ " قالوا: نقول، والله، يا رسول الله، هذا من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب لم ينكح، وإن شفع لا يشفع، وإن قال لا يسمع لقوله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لهذا خير من ملء الأرض مثل هذا" (1)
المِيزانُ عندَ اللهِ يَختلِفُ عن المَوازينِ عندَ النَّاسِ؛ فكَثيرًا ما يَقيسُ النَّاسُ بَعضُهم بعضًا بِمَوازينِ الدُّنيا مِنَ الجاهِ والمالِ والسُّلطانِ، أمَّا المِيزانُ عندَ اللهِ فَهو بِقُربِ العبدِ إليه وبتَقْواهُ؛ قال اللهُ تعالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
وهذا الحديثُ يَدُلُّ دَلالةً واضحةً على هذا المعنى، حيث أراد الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ يُبَيِّنَ لأصحابِهِ نَموذَجًا عَمَليًّا حين مَرَّ رَجُلٌ مِن أغنياءِ المُسلِمينَ، فسأل النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الحاضِرين من أصحابِه عنه: «ما تَقُولونَ في هذا؟» فأجابوا أنَّه جَديرٌ إنْ أراد الزَّواجَ أنْ يَقبَلَه النَّاسُ زَوجًا لمَن رَغِبَها، وإنْ أراد أنْ يَشْفَعَ في أحَدٍ قَبِلوا شَفاعَتَه فيه، وإنْ تَحَدَّثَ أنصَتوا له؛ لأنَّهُم يَرَونَه صاحِبَ جاهٍ ومالٍ وسُلطانٍ.
ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ مِن عامَّةِ المسلمين، ليس له قَدْرٌ بيْن النَّاسِ، قيل: إنَّه الصَّحابيُّ جُعَيلُ بنُ سُراقةَ رضِيَ اللهُ عنه، فسألهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنه: «ما تَقُولونَ في هذا؟» فأجابوه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَكْسَ ما أجابوا في الأوَّلِ؛ بأنَّه إنْ أراد الزَّواجَ لا يُزَوِّجُه أحَدٌ، وإنْ شَفَعَ في أحَدٍ لا تُقبَلُ شَفاعَتُه، وإنْ تَكَلَّم فَلا سامِعَ له؛ لأنَّهم يَرَونَه فَقيرًا، لا جاهَ له ولا سُلطانَ؛ فَبَيَّنَ لَهُم رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الأمْرَ على المَعنى الصَّحيحِ، وذلك أن قال لهم: «هذا» الفقيرُ «خَيْرٌ مِن مِلْءِ الأرْضِ مِثْلَ هذا» الغنيِّ؛ فالعِبرةُ ومَقامُ المَرءِ وقِيمَتُه ليستْ بمالِه ولا جاهِه ولا سُلطانِه، إنَّما هي بِتَقوى العَبدِ وصَلاحِه ومَقامِه عندَ رَبِّه. وإطلاقُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم التفضيلَ على الغنيِّ المذكورِ لا يلزَمُ منه تفضيلُ كلِّ فقيرٍ على كُلِّ غنيٍّ؛ فالمعيارُ في التفاضُلِ الدِّينُ والتقوى، وليس الغِنى والفَقرَ.