باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه
بطاقات دعوية
حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما قضى الله الخلق، كتب في كتابه، فهو عنده، فوق العرش، إن رحمتي غلبت غضبي
الله سبحانه وتعالى غفور رحيم، ومن حكمته سبحانه ورحمته العامة أن رزق الكافر في الدنيا ونعمه وخوله مدة عمره، ومكنه من آماله وملاذه، مع أنه لا يستحق بكفره ومعاندته غير أليم العذاب؛ فكيف تكون رحمته بمن آمن به، واعترف بذنوبه، ورجا غفرانه، ودعاه تضرعا وخفية؟!
وفي هذا الحديث يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى كتب في كتاب -قيل: في اللوح المحفوظ، وقيل: في كتاب خاص بذلك الأمر تنويها بشأنه، ورفعا لقدره- قبل أن يخلق الخلق، وفي رواية في الصحيحين: «لما خلق الله الخلق»، قيل في الجمع بينهما: معناه: أراد أن يخلق الخلق وهو مكتوب عنده تعالى فوق العرش: أن رحمته تعالى سبقت غضبه؛ فهو سبحانه وتعالى الغفور الرحيم، فكانت رحمته أسبق لعباده من الغضب عليهم، ورفقه بالخلق وإنعامه عليهم ولطفه بهم؛ أكبر من انتقامه وأخذه، كيف لا، وابتداؤه الخلق وتكميله وإتقانه، وترتيبه، وخلق أول نوع الإنسان في الجنة؛ كل ذلك من رحمته السابقة؟! وكذلك ما رتب على ذلك من النعم والألطاف في الدنيا والآخرة، وكل ذلك رحمات متلاحقات، فهو قد ابتدأ خلقه بالنعمة بإخراجهم من العدم إلى الوجود، فالرحمة تشمل الإنسان جنينا، ورضيعا، وفطيما، وناشئا، من غير أن يصدر منه شيء من الطاعة، وبسط لهم -من رحمته- في قلوب الأبوين على الأبناء من الصبر على تربيتهم ومباشرة أقذارهم؛ ما إذا تدبره متدبر أيقن أن ذلك من رحمته تعالى
ومن رحمته تعالى السابقة أنه يرزق الكفار وينعمهم، ويدفع عنهم الآلام، ثم ربما أدخلهم الإسلام -رحمة منه لهم- وقد بلغوا من التمرد عليه والخلع لربوبيته غايات تغضبه، فتغلب رحمته ويدخلهم -بعد إسلامهم- جنته، ومن لم يتب عليه حتى توفاه فقد رحمه مدة عمره بتراخي عقوبته عنه، وقد كان له ألا يمهله بالعقوبة ساعة كفره به ومعصيته له، لكنه أمهله رحمة له، ولا يلحقه الغضب إلا بعد أن يصدر عنه من الذنوب ما يستحق معه ذلك، فكل ذلك من شواهد سبق رحمته تعالى لغضبه، ومع هذا فإن رحمة الله السابقة أكثر من أن يحيط بها وصف
ووجه المناسبة بين بدء الخلق وسبق الرحمة: أن العباد مخلوقون للعبادة شكرا للنعم الفائضة عليهم، ولا يقدر أحد على أداء حق الشكر، وبعضهم يقصر فيه؛ فسبقت رحمته في حق الشاكر بأن وفى جزاءه
والمراد بالعرش: عرش الرحمن الذي استوى عليه جل جلاله، وهو أعلى المخلوقات وأكبرها وأعظمها، وصفه الله بأنه عظيم، وبأنه كريم؛ فوصفه بالحسن من جهة الكمية، وبالحسن من جهة الكيفية
وفي الحديث: دليل على استواء الله تعالى على عرشه، وعلوه على خلقه
وفيه: بيان سعة رحمة الله، وكثرة فضله في حلمه قبل انتقامه، وعفوه قبل عقوبته
وفيه: إثبات صفتي الرحمة والغضب لله سبحانه وتعالى، من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل
وفيه: إثبات تفاضل صفات الله تعالى؛ فقد وصف رحمته بأنها تغلب وتسبق غضبه، وهذا يدل على فضل رحمته على غضبه من جهة سبقها وغلبتها