باب في فتح قسطنطينية
بطاقات دعوية
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا تقوم الساعة حتى ينزل (3) الروم بـ (الأعماق) أو بـ (دابق) (4) فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ فإذا تصافوا قالت الروم خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم فيقول المسلمون لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا فيقاتلونهم فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبدا ويقتل ثلثهم أفضل الشهداء عند الله (5) ويفتتح الثلث لا يفتنون أبدا فيفتتحون قسطنطينية فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان إن المسيح قد خلفكم في أهلكم فيخرجون وذلك باطل فإذا جاءوا الشام خرج فبينما هم يعدون للقتال يسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة فينزل عيسى ابن مريم - عليه السلام - فأمهم فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء فلو تركه لانذاب حتى يهلك ولكن يقتله الله بيده فيريهم دمه في حربته. (م 8/ 175 - 176)
أخبَرَنا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن أحداثِ آخِرِ الزَّمانِ، وما يكونُ فيها مِن فِتنٍ وشدائدَ، وما يَحصُلُ فيها لأُمَّةِ الإسلامِ، وبيَّن سَبيلَ الخلاصِ مِن كلِّ ذلك
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه لا تقومُ السَّاعةُ ولا يَنْتهي أجلُ الدُّنيا حتَّى تَنزِلَ الرُّومُ بِالأعماقِ أو بِدابقٍ، والأعماقُ ودَابقٌ مَوضعانِ بِالشَّامِ بِالقُربِ مِن حَلَبٍ، فيَنزِلُ الرُّومُ بأحدِ هذينِ الموضعينِ لقِتالِ المسْلِمين، فَيخرجُ إليهم جيشٌ مِنَ المدينةِ المذكورةِ، وهي حَلبُ، وقيل: المرادُ مِن المدينةِ دِمَشقُ، وأمَّا ما قِيل مِن أنَّ المرادَ بالمدينةِ مَدينةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فضعيفٌ؛ لأنَّ المرادَ بالجيشِ الخارجِ إلى الرُّومِ جَيشُ المَهديِّ؛ بدَليلِ آخِرِ الحديثِ، ولأنَّ المدينةَ المنوَّرةَ تكونُ خَرابًا في ذلك الوقتِ
فيَخرُجُ إليهم جَيشٌ هو مِن خِيارِ أهلِ الأرضِ يومَئذٍ؛ وقوله: «يومَئذٍ» احترازًا مِن زمنِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإذا تَصافُّوا ووقَفَ الطَّرَفانِ في مُواجَهةِ بعضِهما للحربِ، قالتِ الرُّومُ: «خَلُّوا بيْنَنا وَبَيْنَ الَّذينَ سَبَوْا مِنَّا»، أي: اتْرُكوا الَّذين قاتَلُونا منكم قبْلَ ذلكَ وأسَروا بعضَ أهلِنا لنَقتُلَهم؛ فالمعنى: إنَّنا لا نُريدُ أنْ نُقاتِلَ إلَّا الرِّجالَ الَّذين غَزَوا بِلادَنا وسَبَوا ذَرارِيَّنا، والرُّومُ بذلك يُريدونَ مُقاتَلةَ المؤمنينَ ومُخادعَةَ بعضِهم عَن بعضٍ، ويَبغونَ بِه تفريقَ كلِمَتِهم، وُرِوي «سُبُوا»، ومعناه: إنَّنا إنَّما نُريدُ أنْ نُقاتِلَ الَّذين كانوا منَّا أوَّلًا فسَباهُم المسْلِمون حتَّى أسْلَموا بعْدَ إقامتِهم بدارِ الإسلامِ وجَعَلوا يُقاتِلوننا مِن هناكِ. وقيل: كِلا الضَّبطينِ صَوابٌ؛ لأنَّهم سُبوا أوَّلًا ثمَّ سَبَوا الكفَّارَ، ومُعظَمُ عَساكرِ الإسلامِ في بلادِ الشَّامِ ومِصرَ سُبُوا أوَّلًا، ثمَّ قاتَلوا الكفَّارَ وسَبَوهم، فأخَذوا منهم أسْرى
فيَرفُضُ المسْلُمون، ويَقولون: لا واللهِ لا نُخَلِّي بيْنَكم وبيْن إخوانِنا المسْلِمين، فيُقاتِلُ المسْلمونَ الرُّومَ الكفَرةَ، فَينهزِمُ ثُلثُ الجيشِ مِنَ المسْلِمينَ، وهؤلاء لا يَتوبُ اللهُ عليهم أبدًا، ولعلَّ ذلك لفِرارِهم مِن الحربِ، ويكونُ هؤلاء ممَّن شاء اللهُ تعالَى ألَّا تُقبَلَ تَوبتُهم؛ لعَظيمِ جُرمِهم، وقيل: هو كِنايةٌ عَن مَوتِهم على الكفرِ، وأنَّ عَذابَهم في الآخرةِ يكونُ أبدًا
ثمَّ يُقتَلُ ثُلثٌ آخَرُ مِن جَيشِ المسْلِمين في تلكَ اِلحرب، وهؤلاء هُم أفضلُ الشُّهداءِ عِندَ اللهِ، ثمَّ يَفتَتِحُ ويَنتصِرُ الثُّلثُ الباقي مِن المسلِمينَ، ويَغْلِبون الرُّومَ ولا يُفتَنونَ في دِينِهم، فلا يَقَعون في فِتنةِ الكفرِ أبدًا وتَحسُنُ عاقبتُهم، ولا يُبتلَوْنَ بِبليَّةٍ، أو لا يُمتحنونَ بِمقاتَلةٍ، أو لا يُعذَّبون أبدًا، وقيل: لا تقَعُ بيْنهم فِتنةُ الاختلافِ وغيرِه، وفي هذا إشارةٌ إلى حُسنِ خَاتمتِهم
فيفَتتِحونَ قُسطَنْطِينيَّةَ، ويَأخذونَها مِن أيدي الكفَّارِ، وهي مَدينةٌ عَظيمةٌ مِن أعظَمِ بِلادِ الرُّومِ، وهي اليومَ مَدينةُ إسطنبولَ، ولعلَّ المرادَ مِن الرُّومِ النَّصارى؛ لأنَّ أهلَ الرُّومِ كانوا يومئذٍ نَصارى
فبيْنَما المسْلِمونَ يَقْتسِمونَ الغنائمَ الَّتي أخَذوها عَنْوةً مِن الرُّومِ، وقدْ علَّقُوا سُيوفَهم بِأشجارِ الزَّيتونِ -وهو دليلٌ على كَمالِ الأمْنِ- إذ يَصرُخُ فيهمُ الشَّيطانُ ويُنادي بِصوتٍ مُرتفعٍ، فيُخبِرُهم أنَّ المسيحَ الدَّجَّالَ قدْ قامَ مَقامَكم في أهلِيكم، وفي ذَرَارِيِّكم بالشَّرِّ، والدَّجَّالُ هو شَخصٌ مِن بني آدَمَ، يَدَّعي الأُلوهيَّةَ، وظُهورُه مِن العلاماتِ الكُبرى ليَومِ القِيامةِ، يَبتَلي اللهُ به عِبادَه، وأَقْدَره على أشياءَ مِن مَقدوراتِ اللهِ تعالى؛ مِن إحياءِ الميِّتِ الَّذي يَقتُلُه، ومِن ظُهورِ زَهرةِ الدُّنيا والخِصْبِ معه، وجَنَّتِه ونارِه، ونَهْرَيْهِ، واتِّباعِ كُنوزِ الأرضِ له، وأمْرِه السَّماءَ أنْ تُمطِرَ فتُمطِرَ، والأرضَ أنْ تُنبِتَ فتُنبِتَ؛ فيَقَعُ كلُّ ذلك بقُدرةِ اللهِ تعالَى ومَشيئتِه، وسُمِّيَ مَسِيحًا؛ لأنَّه مَمْسوحُ العَيْنِ مَطْموسُها، فهو أَعْوَرُ، وقيل غيرُ ذلك
فيَخرُجونَ مِن قُسْطَنطينِيَّةَ راجِعِين إلى أهلِيهم، وذلك القولُ مِنَ الشَّيطانِ باطلٌ، أي: غيرُ صَحيحٍ، فإذا جاء المسْلِمونَ مِن القُسَطنطينيَّةِ إلى الشَّامِ وتحديدًا إلى إيلياءَ قَريةٍ ببَيتِ المقدِسِ، خرَجَ الدَّجَّالُ حَقيقةً، قيل: يَحتمِلُ أنْ يكونَ مَجيئُهم إلى الشَّامِ وخُروجُ الدَّجَّالِ مُتَّصلًا بفتْحِ القُسْطنطينيَّةِ، ويَحتمِلُ أنْ يكونَ ذلكَ بعْدَ الفتحِ بكَثيرٍ، وبيْنما المسْلِمون يَستعِدُّون ويَتهيَّؤُونَ لقتالِ الدَّجَّالِ وأتباعِه مِن اليهودِ والنَّصارى ويُسوُّونَ الصُّفوفَ؛ إذْ حضَرَتْهم الصَّلاةُ وأُقِيمَت، فَينزِلُ عِيسى ابنُ مَريمَ عليه السلام، فَأَمَّهم، أي: فيَحضُرُ عِيسى عليه السَّلامُ مع المسْلِمينَ صَلاتَهم تلكَ، لا أنَّه يَؤُمُّهم ويَقتَدُون به؛ ففي الصَّحيحينِ: «كيْف أنتم إذا نزَلَ ابنُ مَريمَ فيكم وإمامُكم منْكم؟» أي: إنَّ عِيسى عليه السَّلامُ يُصلِّي الجَماعةَ مع المُسلِمين، ويكونُ الإمامُ مِن أُمَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهو المَهْديُّ، كما في الرِّواياتِ الأُخرى، وليس عِيسى عليه السَّلامُ، وهذا تَكريمٌ لهذه الأُمَّةِ، فيُصلِّي مَأمومًا؛ حتَّى يَعلَمَ الجميعُ أنَّه لم يَنزِلْ بشَرعٍ أو رِسالةٍ جديدةٍ
ويكونُ الدَّجَّالُ حينئذٍ مُحاصِرًا للمسْلِمين، فإذا جاء الدَّجَّالُ عدُوُّ اللهِ ورَأى عِيسى عليه السَّلامُ، شرَعَ الدَّجَّالُ في الذَّوبانِ كما يَذوبُ المِلحُ في الماءِ، فلو تَرَكه عِيسى عليه السَّلامُ ولم يقتُلْه؛ لَانْذابَ الدَّجَّالُ حتَّى يَهلِكَ بِنفسِه بِالكلِّيَّةِ، ولكنْ يَقتُلُه اللهُ بِيَدِ عيسى عليه السَّلامُ، فَيُرِيهم دمَ الدَّجَّالِ في حرْبَتِه، وهي رُمحٌ صَغيرٌ؛ وذلك ليَظهَرَ بوُضوحٍ للمؤمنينَ ويَزدادَ إيمانُهم بكونِ الدَّجَّالِ كان يَتلعَّبُ بأعينِ النَّاسِ، ولو كان عِنده القدرةُ -كما زعَمَ- لَدفَعَ عن نفسِه القتْلَ والموتَ
وفي الحديثِ: إخبارُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَنِ الغَيبيَّاتِ
وفيه: بَيانُ فِتنةِ المسيحِ الدَّجَّالِ
وفيه: بَيانُ الملحمَةِ الكبرى
وفيه: أنَّ مِن عَلاماتِ السَّاعةِ فتْحَ القُسْطنطينيَّةِ، وهذا الفتحُ غيرُ الفتحِ الَّذي وَقَع على يَدِ محمَّدٍ الفاتحِ
سنةَ (857 هـ)، بلِ المرادُ هنا فتحُ المَهديِّ لها آخِرَ الزَّمانِ، واللهُ تعالَى أعلمُ
وفيه: بَيانُ نُزولِ عِيسى عليه السَّلامُ مِن السَّماءِ في ذلكَ الوقتِ
وفيه: بَيانُ مُعجِزةِ عِيسى عليه السَّلامُ؛ حيث إنَّ الدَّجَّالَ الجبَّارَ مع تَجبُّرِه يَذوبُ كما يَذوبُ المِلحُ في الماءِ بمُجرَّدِ رُؤيتِه.