باب قتل أبي رافع عبد الله بن أبي الحقيق، ويقال: سلام ابن أبي الحقيق، كان بـ (خيبر)
بطاقات دعوية
عن البراء بن عازب قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبى رافع اليهودى رجالا من الأنصار (وفى رواية: عبد الله بن عتيك وعبد الله بن عتبة فى ناس معهم)، فأمر عليهم عبد الله بن عتيك، وكان أبو رافع يؤذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويعين عليه، وكان فى حصن له بأرض الحجاز، فلما دنوا منه -وقد غربت الشمس، وراح الناس بسرحهم (34) - فقال عبد الله لأصحابه: اجلسوا مكانكم، فإنى منطلق، ومتلطف للبواب، لعلي أن أدخل. فأقبل حتى دنا من الباب، ثم تقنع بثوبه كأنه يقضى حاجة، وقد دخل الناس، فهتف به البواب: يا عبد الله! إن كنت تريد أن تدخل فادخل، فإنى أريد أن أغلق الباب. فدخلت، فكمنت [فى مربط حمار عند باب الحصين 5/ 28]، فلما دخل الناس؛ أغلق الباب، [ثم إنهم فقدوا حمارا لهم , فخرجوا [بقبس] يطلبونه, فخرجت فيمن خرج؛ أريهم أننى أطلبه معهم , فوجدوا الحمار , فدخلوا , ودخلت , وأغلقوا باب الحصن ليلا 4/ 23] , ثم علق الأغاليق (وفى رواية: المفاتيح) على وتد (وفى رواية: في كوة حيث أراها , فلما ناموا)؛ قال: فقمت إلى الأقاليد (وفى رواية المفاتيح)، فأخذتها، ففتحت الباب، [قال: قلت: إن نذر بي القوم؛ انطلقت على مهل]، وكان أبو رافع يسمر عنده، وكان فى علالى له (35)، فلما ذهب عنه أهل سمره (وفي رواية: فتعشوا عند أبى رافع، وتحدثوا حتى ذهبت ساعة من الليل، ثم رجعوا إلى بيوتهم، فلما هدأت الأصوات، ولا أسمع حركة)؛ صعدت إليه [في سلم]، فجعلت كلما فتحت بابا أغلقت على من داخل، قلت: إن القوم نذروا بى؛ لم يخلصوا إلى حتى أقتله. فانتهيت إليه، فإذا هو فى بيت مظلم وسط عياله، لا أدرى أين هو من البيت؟ فقلت: يا أبا رافع! قال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت، فأضربه ضربة بالسيف وأنا دهش، فما أغنيت شيئا، وصاح، فخرجت من البيت، فأمكث غير بعيد، ثم دخلت إليه [كأنى مغيث]، فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟! -[وغيرت صوتى]- فقال: [ما لك] لأمك الويل! [قلت: ما شأنك؟ قال: لا أدرى من دخل علي؟] إن رجلا في البيت ضربني قبل بالسيف. قال: فأضربه ضربة أثخنته، ولم أقتله، [فصاح، وقام أهله، قال: ثم جئت، وغيرت صوتى كهيئة المغيث، فإذا هو مستلق على ظهره]، ثم وضعت ظبة السيف فى بطنه، حتى أخذ فى ظهره (وفي رواية: حتى قرع (وفى أخرى: سمعت صوت) العظم , فعرفت أنى قتلته، [ثم خرجت وأنا دهش] , فجعلت أفتح الأبواب بابا بابا، حتى انتهيت إلى درجة له، فوضعت رجلى، وأنا أرى أنى قد انتهيت إلى الأرض، فوقعت فى ليلة مقمرة، فانكسرت ساقى، فعصبتها بعمامة، ثم انطلقت حتى جلست على الباب، فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته؟ (وفي رواية: حتى أسمع الناعية)، فلما صاح الديك؛ قام الناعى على السور، فقال: أنعى أبا رافع تاجر أهل الحجاز. فانطلقت إلى أصحابى، فقلت: النجاء! فقد قتل الله أبا رافع (وفي رواية: ثم أتيت أصحابى أحجل، فقلت: انطلقوا فبشروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنى لا أبرح حتى أسمع الناعية، فلما كان فى وجه الصبح؛ صعد الناعية, فقال: أنعى أبا رافع. قال: فقمت أمشى ما بى قلبة) (36)، فانتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -, فحدثته (وفي رواية: فأدركت أصحابى قبل أن يأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فبشرته)، فقال لي:
"ابسط رجلك"، فبسطت رجلي، فمسحها، فكأنها لم أشتكها قط.
رجلك"، فبسطت رجلي، فمسحها، فكأنها لم أشتكها قط.
أذيَّةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَيستْ كأذيَّةِ غَيرِه مِنَ البَشرِ؛ فله حُقوقٌ علينا أكثرُ مِن غَيرِه، فالطَّعنُ فيه طَعنٌ في الوَحيِ، وفي اللهِ سُبحانَه وتعالَى؛ ولِذا لم تُجعَلْ عُقوبَتُه كعُقوبةِ مَن سَبَّ أو آذَى سائرَ المُؤمِنينَ.
وفي هذا الحَديثِ يَرْوي الصَّحابيُّ البَراءُ بنُ عازبٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعَثَ إلى أبي رافِعٍ عبدِ اللهِ -أو سَلَّامِ- بنِ أبي الحُقَيقِ اليَهوديِّ رِجالًا مِن الأنْصارِ؛ ليَقْتُلوه، فأمَّرَ عليهم عَبدَ اللهِ بنَ عَتيكٍ رَضيَ اللهُ عنه، وكان أبو رافعٍ يُؤْذي رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ويُعينُ عليه، قيلَ: هو الَّذي جمَعَ الأحْزابَ يَومَ الخَندَقِ؛ لمُهاجَمةِ المَدينةِ، أو أعانَ غَطَفانَ وغَيرَهم بالمالِ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكان في حِصنٍ له بأرضِ الحِجازِ، ويقَعُ حاليًّا في المِنطَقةِ الغَربيَّةِ مِن شِبهِ الجَزيرةِ العَربيَّةِ، وتَمتَدُّ مِن تَثليثٍ في الجَنوبِ حتَّى تَنتَهيَ عندَ خَيْبرَ في الشَّمالِ، وقيلَ: كان في خَيْبرَ.
فلمَّا اقتَرَبَ منه عَبدُ اللهِ بنُ عَتيكٍ وأصْحابُه وقد غرَبَتِ الشَّمسُ، وراحَ النَّاسُ بسَرْحِهم، أي: رَجَعوا بمَواشيهمُ الَّتي تَرْعَى، والسَّرْحُ هي السَّائمةُ مِن إبلٍ، وبَقرٍ، وغَنمٍ، قال عَبدُ اللهِ لأصْحابِه: اجْلِسوا مَكانَكم؛ فإنِّي مُنطَلِقٌ، ومُتلطِّفٌ للبوَّابِ، وهو الحارسُ الَّذي يقِفُ على بابِ الحِصنِ، لعلِّي أستَطيعُ الدُّخولَ إليه، فذَهَبَ حتَّى اقتَرَبَ مِن البابِ، ثمَّ تَقنَّعَ بثَوْبِه كأنَّه يَقْضي حاجةً؛ ليُخفيَ شَخصَه كي لا يُعرَفَ، وقد دخَلَ النَّاسُ، فناداهُ البَوَّابُ: يا عَبدَ اللهِ، إنْ كُنتَ تُريدُ أنْ تَدخُلَ فادْخُلْ؛ فإنِّي أُريدُ أنْ أُغلِقَ البابَ، وأرادَ البوَّابُ بقولِه: «يا عبدَ اللهِ» مَعْناه الحَقيقيَّ؛ لأنَّ الجَميعَ عَبيدُ اللهِ، ولم يُرِدِ اسمَه العَلَمَ؛ لأنَّه لو كان كذلك لكانَ قدْ عرَفه، والواقعُ أنَّه كان مُستَخْفيًا منه، قال عَبدُ اللهِ بنُ عَتيكٍ رَضيَ اللهُ عنه: فدخَلْتُ فَكمَنْتُ، يَعني أنَّه خَفيَ عنِ الأنْظارِ وَاخْتَبأَ، فلمَّا دخَلَ النَّاسُ أغلَقَ البوَّابُ البابَ، ثمَّ علَّقَ الأغاليقَ -أي: المفاتيح- على وَتِدٍ، وهو ما ثبَت في الأرضِ، أو في الحائطِ، مِن خشَبٍ، أو حَديدٍ، ونَحوِ ذلك، قال عبدُ اللهِ رَضيَ اللهُ عنه: فقُمْتُ إلى الأقاليدِ، وهي المَفاتيحُ، فأخذْتُها، ففتَحْتُ البابَ، وكان أبو رافعٍ يَجلِسُ ويَتكلَّمُ معَه أصْحابُه بعْدَ العِشاءِ، وكان في «عَلالِيَّ له»، العَلالي جَمعُ عَليَّةٍ، وهي الغُرْفةُ، فلمَّا ذهَبَ عنه «أهلُ سَمَرِه»، وهُم مَن كانَ جالِسًا مَعَهم، صعِدَ إليه عبْدُ اللهِ بنُ عَتيكٍ رَضيَ اللهُ عنه، وكُلَّما فَتحَ بابًا أغلَقَه عَليه مِنَ الدَّاخلِ؛ تَحرُّزًا مِن سُرعةِ لِحاقِ أهلِ أبي رافعٍ له إنْ سَمِعوا صَوتَه وهوَ يُهاجِمُه، وقال في نفْسِه: «إنِ القَومُ نَذِرُوا بي»، أي: عَلِموا بوُجودي، وأصْلُه مِن الإنْذارِ، وهو الإعْلامُ بالشَّيءِ الَّذي يُحذَرُ منه، «لم يَخْلُصوا إلَيَّ حتَّى أقتُلَه»؛ لوُجودِ أكثرَ مِن بابٍ مُغلَقٍ يُعطِّلُهم مِن سُرعةِ إنْقاذِه، فوصَل إلى أبي رافعٍ اليَهوديِّ، فإذا هو في بَيتٍ مُظلِمٍ وَسْطَ عيالِه، ولا يَدْري أينَ هو مِن البَيتِ؟ فناداه عبدُ اللهِ رَضيَ اللهُ عنه: يا أبا رافعٍ، فقال أبو رافعٍ: مَن هذا؟ وهنا عَلِم عبدُ اللهِ مَوقِعَه بسَماعِ صَوتِه، فقصَدَ نَحوَ الصَّوتِ، فضَرَبه ضَرْبةً بالسَّيفِ وهو مُتحيِّرٌ: هل أصابَتْه أمْ لا؟ بسَببِ الظَّلامِ، ولكنَّه تَبيَّنَ له بعدَ ذلك أنَّ الضَّربةَ لم تَقتُلْه، وصاحَ أبو رافعٍ بأهلِ بَيتِه ليُنجِدوه، فخرَج عبدُ اللهِ مِن البَيتِ، وانتَظَرَ غَيرَ بَعيدٍ، ثُمَّ دخَل مرَّةً أُخْرى إلى أبي رافعٍ، فغيَّرَ صَوتَه خِداعًا لأبي رافعٍ حتَّى لا يَعرِفَه، وقال له: ما هذا الصَّوتُ يا أبا رافعٍ؟ فلم يَنتَبِهْ له أبو رافعٍ؛ بلْ ظنَّه واحدًا مِن أهلِ بَيتِه جاء ليُنقِذَه؛ ولذلك قال له: لأُمِّكَ الوَيلُ! إنَّ رَجلًا في البَيتِ ضَرَبَني قبْلَ قَليلٍ بالسَّيفِ. وهنا تَمكَّنَ عبدُ اللهِ من أبي رافعٍ فضرَبَه بالسَّيفِ ضَرْبةً أثخَنَتْه، وأفقَدَتْه الحَركةَ، ولكنَّها لم تَقتُلْه، ثمَّ وضَع «ظُبَةَ السَّيفِ» -وهي حَرْفُ حدِّ السَّيفِ- في بَطنِ أبي رافعٍ حتَّى خرَجَ مِن ظَهْرِه، فتَأكَّدَ عبْدُ اللهِ أنَّه قد قتَلَه، ثمَّ بَدأ في الهرَبِ، فجعَلَ يَفتَحُ الأبْوابَ بابًا بابًا، وهي الَّتي كان قد أغلَقَها عندَ دُخولِه، حتَّى انْتَهى إلى دَرَجةِ سُلَّمٍ، فوضَعَ رِجلَه عليها وهو يظُنُّ أنَّه قدِ وَصَل إلى الأرضِ، ولكنْ لم يكُنِ الأمرُ كذلك، فوقَعَ فانكَسَرَت ساقُه، فربَطَها بعِمامةٍ ممَّا يَلُفُّه على رأسِه، قال: ثمَّ انطلَقْتُ حتَّى جلَسْتُ على البابِ، فقلْتُ: لا أخرُجُ اللَّيلةَ حتَّى أعلَمَ: أقتَلْتُه أم لا؟ ليَتأكَّدَ منِ انْتِهاءِ مُهمَّتِه على الوجْهِ الأكملِ، فلمَّا صاحَ الدِّيكُ وقْتَ الفَجرِ، قامَ النَّاعي على سُورِ الحِصنِ ليُناديَ، ويُسمِعَ النَّاسَ حَولَه، فنادَى وأعلَمَ بوَفاةِ أبي رافعٍ تاجِرِ الحِجازِ، وهنا رجَع عبدُ اللهِ مُسرِعًا إلى أصْحابِه، وقال لهمُ: «النَّجاءَ»، أي: أسْرِعوا؛ فقدْ تَمَّتِ مُهِمَّتُهمُ الَّتي أرسَلَهم لها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهي قَتلُ أبي رافعٍ.
فرجَعَ عبدُ اللهِ رَضيَ اللهُ عنه إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فحَدَّثَه بالخَبرِ، ومنها كَسرُ رِجلِه، فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ابسُطْ رِجلَكَ ومُدَّها، فبَسطَ رِجْلَه، فمَسَحَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قال عبْدُ اللهِ رَضيَ اللهُ عنه: «فكأنَّها لم أشْتَكِها قطُّ»، فشَفاهُ اللهُ على يَدِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفي الحَديثِ: بَيانُ عَداوةِ اليَهودِ المُستمِرَّةِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وللإسْلامِ، وأهْلِه.
وفيه: قَتْلُ مَن أعانَ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيَدِه، أو مالِه، أو لِسانِه.
وفيه: فَضيلةٌ ظاهرةٌ لعَبدِ اللهِ بنِ عَتيكٍ رَضيَ اللهُ عنه، وبَيانُ فِطنَتِه.
وفيه: مُعجِزةٌ ظاهِرةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بشِفاءِ رِجلِ ابنِ عَتيكٍ رَضيَ اللهُ عنه المَكْسورةِ بعْدَ مَسحِها.