باب قوله تعالى: {كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية. ناصية كاذبة خاطئة}

بطاقات دعوية

باب قوله تعالى: {كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية. ناصية كاذبة خاطئة}

 عن ابن عباس: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا يصلى عند الكعبة؛ لأطأن على عنقه، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال:
«لو فعله لأخذته الملائكة».

أيَّد اللهُ عزَّ وجلَّ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالحمايةِ والنَّصرِ على المشْرِكين بعْدَ أنْ لَاقى صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وكثيرٌ مِن صَحابتِه رَضيَ اللهُ عنهم أنواعًا مِن الأذى والعَنَتِ والاضطهادِ.
وفي هذا الحديثِ يَحكي أبو هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ أبا جَهلٍ عُمرَ بنَ هِشامٍ، قال: «هلْ يُعفِّرُ محمَّدٌ وجهَه؟» والتَّعفيرُ هو التَّمريغُ في التُّرابِ، ومرادُه: هل يُصلِّي ويَسجدُ على التُّرابِ «بَيْنَ أَظهُرِكم»، أي: على أعينِكم ومُشاهَدتِكم له دونَ إنكارٍ منكم لفِعلِه أو مَنعِه مِن صَلاتِه؟! وكان ذلك في فترةِ ما قبْلَ الهجرةِ وحالَ كونِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بمكَّةَ، «فَقيلَ: نعم» إنَّه يَفعَلُ ذلك ويَسجُدُ في صَلاتِه أمامَ النَّاسِ، فقال أبو جَهلٍ مُقسِمًا بـ«اللَّاتِ وَالعزَّى» وهما اسمٌ لصَنَمينِ مِن أصنامِ قُرَيشٍ الَّتي كانت تَتَّخِذها آلهةً وتَتعبَّدُ لها، «لَئنْ رأيتُه» يَتوعَّدُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حالَ رُؤيتِه يُصلِّي في النَّاسِ، «لَأطأَنَّ» أي: لَأَدوسَنَّ على رَقبتِه، «أَوْ لأُعَفِّرَنَّ» أي: أُلصِقَ وَجْهَهُ في التُّرَابِ إنكارًا عليه وإيذاءً له.
ويُخبِرُ أبو هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ أبا جَهلٍ أتى رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عندَ الكعبةِ وهو يُصلِّي، فقَصدَ أبو جَهلٍ لِيَضعَ رِجلَه على رَقَبةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو ساجدٌ، «فما فَجِئَهم منه»، أي: فما بَغَت وفاجَأَ الجالسينَ حوْلَ الكعبةِ مِن المشْرِكين إلَّا وأبو جَهلٍ «يَنْكُصُ»، أي: يَرجِعُ على «عَقِبَيْهِ»، أي: يَرجِعُ للخلفِ مُبتعِدًا عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، «ويتَّقِي بِيدَيْهِ»، أي: يَحذَرُ بِهما ويَدفعُ شيئًا بِسَببِهما، فسَأله من معه: «ما لكَ؟» أي: ما أرْجَعَك ودَفَعَك إلى الوراءِ؟ فأخبَرَهم أبو جَهلٍ أنَّه رأى بيْنَه وبيْنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ «خَندَقًا» أي: حُفرةً عَميقةً مِن النَّارِ، «وهوْلًا»، وشيئًا يُخافُ منه ويُفزَعُ، «وأجنحةً»: جمعُ جناحٍ، والمرادُ بها أجنحةُ الملائكةِ الَّذينَ يَحفظونَه، فقالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «لو دَنا مِنِّي»، أي: لو استَمرَّ على اقترابِه لِيَفعَلَ ما عَزَم عليه ووَضَع قَدمَه على رَقبةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، «لَاختطَفَتْه الملائكةُ»، والمعنى: لَأخذَ كلُّ مَلَكٍ عضوًا مِن أعضائِه، فَأنزلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} فيَتجبَّرُ ويَعصي اللهَ {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} فرأى نفْسَه قدِ استَغْنى بمالهِ وجاههِ {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} أي: إنَّ المرجِعَ إلى اللهِ وَحْدَه دونَ غيرِه يوْمَ القيامةِ، فيُجازي كلًّا بما يَستحِقُّه {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} أي: أعجِبْتَ مِن أمرِ أبي جَهلٍ الَّذي يَنْهى {عَبْدًا إِذَا صَلَّى} والعبدُ هو محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذا صلَّى عندَ الكعبةِ {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى} أي: إنْ كان هذا المَنهيَّ على هُدًى وبَصيرةً مِن ربِّه؟! {أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} أي: أو كان يَأمُرُ النَّاسَ بتَقوى اللهِ بامتثالِ أوامرِه واجتنابِ نَواهيهِ، أيُنْهى مَن كان هذا شأنُه؟! {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أي: أرأيْتَ إنْ كذَّبَ أبو جَهلٍ بما جاء به الرَّسولُ، وأعرَضَ عنه، ألَا يَخْشى اللهَ سُبحانه؟! {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} أي: ألمْ يَعلَمْ هذا الَّذي يَنهاكَ عن الصَّلاةِ أنَّ اللهَ يَرى ما يَصنَعُ، ولا يَخْفى عليه منه شَيءٌ؟! {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} كَلمةُ (كَلَّا) تُفيدُ الزَّجرَ، أي: لا يَستمِرُّ به غُرورُه وجَهلُه وطُغيانُه؛ فإنَّ اللهَ أقْسَمَ لَئنْ لم يَنتَهِ عن هذا الطُّغيانِ، وإنْ لم يَكُفَّ عن نَهيِ المصلِّي عن صَلاتِه، لِيُأخَذَنَّ بناصيتِه، وهي شَعرُ الجبهةِ أو الجبهةُ نفْسُها، والسَّفعُ الجَذبُ بشِدَّةٍ، والأخذُ بالنَّاصيةِ هنا مَثَلٌ في القَهرِ والإذلالِ والتَّعذيبِ والنَّكالِ، {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} أي: صاحبُها كاذبٌ خاطئٌ، {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ}، أي: قَومَه، والنَّادي المجلِسُ الَّذي يَجتمِعُ فيه القومُ، ويُطلَقُ على القومِ أنفُسِهم، أي: فلْيَجمَعْ أمثالَه لِيَمنَعَ المُصلِّين المخْلِصين ويُؤذِيَ أهْلَ الحقِّ الصَّادقينَ، فإنْ فَعَل تَعرَّضَ لِقَهرِنا وتَنكيلِنا {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} الزَّبانيةُ في أصلِ اللُّغةِ الشُّرطةُ وأعوانُ الوُلاةِ، أي: سنَدْعو له مِن جُنودِنا القويَّ المتينَ الَّذي لا قِبَل له بمُغالَبتِه، فيُهلِكُه في الدُّنيا، أو يُرْدِيه في النَّارِ في الآخرةِ وهو صاغرٌ {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 6-19]، أي: ليْس الأمرُ كما تَوهَّمَ هذا الظَّالِمُ أنْ يَصِلَ إليك بسُوءٍ، فلا تُطِعْه في أمرٍ ولا نَهيٍ، واسجُدْ للهِ، واقتَرِبْ منه بالطَّاعاتِ؛ فإنَّها تُقرِّبُ إليه.
وفي الحديثِ: ما يدُلُّ على آيةٍ كاملةٍ لِرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأنَّ اللهَ سُبحانه وتَعالَى حَماه مِن كيدِ الكفَّارِ بما ذُكِرَ، مِمَّا أَراه اللهُ إيَّاه مِن خَنادقِ النَّارِ وأجنحةِ الملائكةِ.