باب كتاب الوتر
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا حجاج قال قال ابن جريج حدثنى عثمان بن أبى سليمان عن على الأزدى عن عبيد بن عمير عن عبد الله بن حبشى الخثعمى أن النبى -صلى الله عليه وسلم- سئل أى الأعمال أفضل قال « طول القيام ». قيل فأى الصدقة أفضل قال « جهد المقل ». قيل فأى الهجرة أفضل قال « من هجر ما حرم الله عليه ». قيل فأى الجهاد أفضل قال « من جاهد المشركين بماله ونفسه ». قيل فأى القتل أشرف قال « من أهريق دمه وعقر جواده ».
كان النبي صلى الله عليه وسلم يرشد أمته إلى معالي الأمور من الأقوال والأفعال، وكان يجيب السائلين بحسب حاجتهم وما يعلمه خيرا لهم؛ وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم كثير من الأقوال والأفعال الموصوفة بأنها الأفضل والأحسن والخير، وكذلك في الأسوأ والشر
وقد جمع هذا الحديث جملة من هذه الفضائل، وفيه يخبر عبد الله بن حبشي الخثعمي رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الأعمال أفضل؟"، أي، أي أعمال العباد أكثر ثوابا وأفضل أجرا؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إيمان لا شك فيه"، أي: تصديق وإقرار بالقلب يبلغ حد اليقين، بحيث لا يبقى معه أدنى تردد في الحق، وهذا توجيه نبوي إلى إخلاص الإيمان بالله، "وجهاد لا غلول فيه"، أي: لا خيانة فيه، ولا أخذ من غنائمه بغير حق أو قبل القسمة، "وحجة مبرورة"، والحج المبرور: هو الذي لا يخالطه شيء من المآثم، وقيل: هو المقبول المقابل بالبر، وهو الثواب
"قيل: فأي الصلاة أفضل؟"، أي: فأي أمر من أمور الصلاة وأعمالها أفضل في الثواب والأجر؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "طول القنوت"، أي: طول القيام والوقوف بين يدي الله بالقراءة والدعاء
قيل: "فأي الصدقة أفضل؟ قال: جهد المقل"، والجهد الوسع والطاقة، أو المشقة والغاية، والمقل: الفقير الذي معه شيء قليل من المال، أي: إن أفضل الصدقة هو الذي يتصدق به الفقير قليل المال على قدر طاقته ووسعه مع مشقة ذلك عليه، وإنما كانت صدقة المقل أفضل من صدقة الغني؛ لأن الفقير يتصدق بما هو محتاج إليه، بخلاف الغني؛ فإنه يتصدق بفضول ماله
ويجمع بينه وبين حديث: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى"- بأن هذا الحديث محمول على قوي الإيمان الذي يصبر على الفاقة، ويكتفي بأقل الكفاية، والحديث الثاني على ضعيف الإيمان، ويحتمل أن يكون المراد بالغنى غنى القلب الذي يصبر صاحبه على الجوع والشدة، وهو المراد بالمقل في الحديث الذي هنا؛ فيكون المعنى: أن تصدق الفقير الغني القلب- ولو كان قليلا- أفضل من تصدق الغني بكثير من ماله
ويشهد لذلك حديث: "سبق درهم مئة ألف درهم، قالوا: وكيف؟ قال: كان لرجل درهمان تصدق بأحدهما، وانطلق رجل إلى عرض ماله، فأخذ منه مئة ألف درهم فتصدق بها"؛ فظاهر الحديث أن الأجر على قدر حال المعطي لا على قدر المال المعطى
"قيل: فأي الهجرة أفضل؟"، أي: أي أنواع الهجرة أفضل؟ والهجرة في الأصل مأخوذة من الهجر ضد الوصل، ثم غلبت على الخروج من أرض إلى أرض، فإن كان خرج لله، فهي الهجرة الشرعية، وتطلق أيضا على ترك المحرمات، وهي المرادة هنا، كما أشار إليها بقوله: "من هجر ما حرم الله عز وجل"، أي: إن ترك الشخص المسلم الأمر الذي حرمه الله عز وجل هو أفضل أنواع الهجرة، مع الفرار بالدين من الفتن
"قيل: فأي الجهاد أفضل؟"، أي: أي أنواع الجهاد أفضل؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من جاهد المشركين بماله، ونفسه"، أي: أفضل الجهاد جهاد من جاهد المشركين وخرج بماله ونفسه فأنفق ماله في سبيل الله وحارب بيده، وهذا أفضل من غيره ممن جاهد بماله فقط أو بنفسه فقط
ولا تنافي بينه وبين حديث: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"؛ لأن الأفضلية نسبية، أي: بالنسبة للكلام؛ فإن المؤمن يجاهد بلسانه، كما يجاهد بيده، فتكون كلمة الحق عند سلطان جائر أفضل جهاد المؤمن المتعلق بلسانه، ويحتمل أن تكون "من" مقدرة، أي: من أفضل الجهاد، والحاصل: أن جهاد المؤمن للمشركين بنفسه وماله أفضل أنواع الجهاد على الإطلاق، والله تعالى أعلم
"قيل: فأي القتل أشرف؟"، أي: أي أنواع القتل أشرف وأعلى درجة؟ "قال: من أهريق دمه"، أي: من قتل وسال دمه في سبيل الله، "وعقر جواده"، أي: وقتل فرسه في الجهاد، والعقر القتل أو قطع الأرجل، وفي هذا إشارة إلى الإقدام في القتال حتى الشهادة أو النصر
وفي الحديث: كثرة الأعمال الفاضلة وتنوعها بين الأفعال والأقوال؛ وعلى كل مسلم أن يأخذ بما يناسبه وبما في استطاعته
وفيه: أن طول القيام لله بالقراءة والدعاء أفضل من كثرة الركوع والسجود
وفيه: فضل الهجرة في سبيل الله؛ بهجر ما نهى عنه، وإتيان ما أمر به
وفيه: فضل الجهاد بالنفس والمال