باب كف اللسان في الفتنة4
سنن ابن ماجه
حدثنا أبو مروان محمد بن عثمان العثماني، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن محمد بن عبد الرحمن بن ماعز العامري أن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله، حدثني بأمر أعتصم به. قال: "قل: ربي الله، ثم استقم". قلت: يا رسول الله، ما أكثر ما تخاف علي؟ فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلسان نفسه، ثم قال: "هذا" (1)
كان الصَّحابةُ رضِيَ اللهُ عَنهم كثيرًا ما يَسأَلون النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم عن سُبلِ النَّجاةِ في الدُّنيا والآخرةِ، وكان صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم يُجيبُهم ويَدُلُّهم على طرُقِ النَّجاةِ وأسبابِ الفَلاحِ، وفي إرشادِهم تَوجيهٌ للأمَّةِ كلِّها.
وفي هذا الحديثِ: يقولُ سُفيانُ بنُ عبدِ اللهِ الثَّقفيُّ رضِيَ اللهُ عنه: "قلتُ: يا رسولَ اللهِ، حدِّثْني بأمرٍ أعتَصِمُ به"، أي: عمَلٍ أو قولٍ أتمسَّكُ به وفيه النَّجاةُ والفلاحُ، "قال"، أي: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم لِسُفيانَ: "قُل: ربِّي اللهُ"، أي: عليك بتَوحيدِ اللهِ وعبادتِه، "ثمَّ استَقِمْ"، أي: كُنْ على الطَّريقِ المستقيمِ، ولا تَحِدْ عنه، واستَقِمْ في الأقوالِ والأعمالِ والأحوالِ، وذلك مثلُ قولِه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}، فمَن آمنَ باللهِ ثمَّ استَقام كان جَزاؤُه: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: 30- 32].
ثمَّ قال سفيانُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "يا رسولَ اللهِ، ما أخوَفُ ما تَخافُ علَيَّ؟"، أي: ما أشَدُّ شيءٍ تَخافُه علَيَّ أن يُهلِكَني ويُضيِّعَني؟ "فأخَذ بلِسانِ نَفْسِه"، أي: فأمسَك النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بلِسانِ نفسِه وأشار إليه، "ثمَّ قال: هذا"، أي: ثمَّ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم لسُفيانَ: هذا اللِّسانُ هو أكثرُ شيءٍ أخافُ عليك منه؛ فاللِّسانُ ربَّما كان نجاةَ الإنسانِ أو كان هَلاكَه؛ لأنَّه المعبِّرُ عن مَكنونِ القلبِ، وبه يَظهَرُ الخيرُ أو الشَّرُّ، وكلُّ ما خرَج مِنه فالمرءُ مُحاسَبٌ عليه، فكان إمساكُه وعدَمُ كثرةِ الكلامِ فيما لا فائدةَ مِنه خيرًا للمُسلِمِ، إلَّا أن يقولَ ذِكرًا للهِ، أو خيرًا مِن أمرٍ بمعروفٍ أو نهيٍ عن منكَرٍ أو إصلاحٍ بين النَّاسِ؛ فهذا ممَّا يُثابُ عليه.
وفي الحديثِ: بيانُ أنَّ النَّجاةِ في الاعتصامِ باللهِ والاستقامةِ على طَريقِه.
وفيه: التَّحذيرُ مِن خُطورةِ اللِّسانِ، والحثُّ على توَقِّي الكلامِ إلَّا فيما يُفيدُ.