باب كيف يعرض الإسلام على الصبي؟
بطاقات دعوية
قال ابن عمر: انطلق [بعد ذلك] النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بن كعب [الأنصاري 7/ 114] يأتيان النخل الذي فيه ابن صياد، حتى إذا دخل [رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] النخل؛ طفق النبي - صلى الله عليه وسلم - يتقي بجذوع النخل، وهو يختل أن يسمع من ابن صياد شيئا قبل أن يراه، وابن صياد مضطجع على فراشه في قطيفة له فيها رمزة -[أو زمرة، وفي رواية: رمرمة]- فرأت أم ابن صياد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يتقي بجذوع النخل، فقالت لابن صياد: أي صاف! - وهو اسمه-[هذا محمد]، فثار (وفي رواية: فتناهى 3/ 147) ابن صياد، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"لو تركته بين"
كان من يهودِ المدينةِ غُلامٌ اسمُه ابنُ صَيَّادٍ، قيل: اسمُه صافي، وقيل: عبدُ اللهِ، وقيل: مِنَ الأنصارِ، وقد شاع بين النَّاسِ أنَّه هو الدَّجَّالُ؛ لِما به مِن صفاتٍ تُشابِهُ التي في الدَّجَّالِ، فأراد النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَطَّلِعَ على أمرِه ويتبَيَّنَ حالَه.
وفي هذا الحَديثِ يحكي عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ عُمَر بنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه انْطَلَقَ مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في رَهْطٍ -وَهوَ ما دونَ العَشَرةِ مِن الرِّجالِ- جِهةَ ابْنِ صَيَّادٍ حَتَّى وَجَدوه يَلعَبُ مَعَ الصِّبيانِ عِندَ أُطُمِ بَنِي مَغالةَ، وَهوَ بِناءٌ مِن حَجَرٍ كالقَصرِ، وَقيلَ: هو الحِصنُ، وَبَنو مَغالةَ: قَبيلةٌ مِن الأنْصارِ. وَكان ابنُ صَيَّادٍ قَدْ قارَبَ البُلوغَ وسِنَّ التَّكليفِ، فلَمْ يَشعُرْ حتَّى ضَرَبَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بيَدِه الشَّريفةِ ظَهْرَه، ثُمَّ سَألَه: تَشْهَدُ أنِّي رَسولُ اللهِ؟ فَنَظَرَ إليه ابنُ صَيَّادٍ فَقالَ: أشْهَدُ أنَّك رَسولُ الأُمِّيِّينَ، أي: رسولُ العَرَبِ، نِسبةً إلى الأمِّيَّةِ، وهي عَدَمُ القِراءةِ والكتابةِ، أوْ نِسبةً إلى أُمِّ القُرى.
ثمَّ وَجَّه ابنُ صَيَّادٍ نَفْسَ السُّؤالِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أتَشهَد أنِّي رَسولُ اللهِ؟ فابنُ صَيَّادٍ يدَّعي الرِّسالةَ ويَطلُبُ مِنَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَشهَدَ بذلك!
«فَرَضَّهُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم»، يعني: دَفَعَه حتَّى وقَعَ؛ ليَأْسِه من إسلامِه، وَقالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «آمَنتُ بِالله وَبِرُسُلِه». ومناسبةُ هذا الجوابُ منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أنه لما أراد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُظهِرَ للقَومِ كَذِبَه في دعواه الرِّسالةَ، أخرج الكلامَ مخرجَ الإنصافِ، أي: آمنتُ برُسُلِ الله، فإن كنتَ رسولًا صادِقًا غَيرَ ملبَّسٍ عليك الأمرُ، آمنتُ بك، وإن كنت كاذِبًا وخُلِّط عليك الأمرُ فلا، لكِنَّك خُلِّط عليك الأمرُ فاخسَأْ. ثم سأله النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ماذا تَرى؟ وقد أراد النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم استنطاقه بما يُظهِرُ كَذِبَه في دعواه، فَأجابَه ابْنُ صَيَّاد: «يَأْتيني صادِقٌ وَكاذِبٌ»، أي: أرى الرُّؤْيا رُبَّما تَصدُقُ فتأتي كما رأيتُ، وَرُبَّما تَكذِبُ. وكان على طريقةِ الكَهَنةِ يُخبِرُ الخَبَرَ فرُبَّما يَصدُقُ وربَّما يَكذِبُ. فَقالَ لَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «خُلِّطَ عليك الأمرُ»، أي: خَلَّطَ عليك شَيْطانُك ما يُلْقي إِلَيك.
ثُمَّ قالَ لَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إِنِّي قَد خَبَأْتُ لَك»، أي: أضْمَرتُ لَك في صَدْري «خَبيئًا»، أي: شَيئًا. وفي روايةٍ أخرى في مُسنَدِ أحمَدَ ذُكِرَ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد خَبأ في صَدْرِه قَولَ اللهِ عزَّ وجَلَّ في سورة الدخان: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10]، فَقالَ ابنُ صَيَّاد: «هو الدُّخ»، فَأرادَ أن يَقولَ: الدُّخانَ فَلَم يَستَطِعْ أنْ يُتِمَّ الكَلِمةَ، فَقالَ: الدُّخ، وَلَم يَهتَدِ مِن الآيةِ الكَريمةِ إِلَّا لهَذَينِ الحَرفَينِ، على عادة الكُهَّانِ مِن اخْتِطافِ بَعْضِ الكَلِماتِ مِن أوليائِهم مِن الجِنِّ، أو مِن هَواجِسِ النَّفسِ.
فَقالَ لَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «اخْسَأْ»، أي: اسْكُت صاغِرًا مَطرودًا، «فَلَن تَعْدوَ قَدْرَك»، أي: لن تُجاوِزَ كَونَك كاهنًا ولا يَبلُغُ قَدْرُك أن تَعلَمَ الغيبَ مِن قِبَلِ الوَحيِ المَخْصوصِ بالأنبياءِ عليهم السَّلامُ، ولا مِن قِبَلِ الإلهامِ الذي يُدرِكه الصَّالحون. وإنما قال ابنُ صَيَّادٍ ذلك من شيءٍ ألقاه إليه الشَّيطانُ؛ إمَّا لكونِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تكَلَّم بذلك بينه وبين نفسِه، فسمعه الشَّيطانُ، أو حدَّث صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعضَ أصحابِه بما أضمرَه.
وَهُنا طَلَبَ عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الإذنَ في أن يَضرِبَ عُنُقَه، أي: يَقتُلَه. فبيَّن لَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه إن يكُنْ هو الدَّجَّالَ، فلست أنت الذي سيقتُلُه، وإنما يقتُلُه عيسى ابن مريمَ عليه السلامُ، وإن لم يكُنْ هو الدَّجَّالَ فلا خيرَ لك في قَتْلِه. ولم يأذَنْ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في قَتْلِه مع ادِّعائِه النبُوَّةَ بحَضرتِه؛ قيل: لأنَّه كان غيرَ بالغٍ، أو كان من أهلِ العَهدِ، وأنَّه لم يُصَرِّحْ بدعوى النبُوَّةِ، وإنما أوهم أنَّه يدَّعي الرِّسالةَ.
وَيَحْكي عَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم انْطَلَقَ بعْدَ ذَلك وَأُبَيُّ بنُ كَعْبٍ رضِيَ اللهُ عنه مَعَه إلى النَّخلِ الَّتي فيها ابنُ صَيَّاد، وَهوَ «يَخْتِلُ»، أي: يَستَغفِلُ ابنَ صَيَّادٍ ليَسمَعَ شَيْئًا مِن كَلامِه الَّذي يَقولُه في خَلْوَتِه؛ ليَعلَم هو وَأصْحابُه أهوَ كاهِنٌ أو ساحِرٌ؟ قَبْلَ أن يَراه ابنُ صَيَّادٍ، فَرَآه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وَهوَ مُضْطَجِعٌ في قَطيفةٍ، وهي قِطعةٌ مِن قماشٍ أو ثيابٍ تُوضَعُ في الرَّحْلِ لِيَكونَ أكثَرَ ليونةً عند الركوبِ عليه، فيها «رَمْرَمةٌ أو زَمْزَمةٌ» شكٌّ من الراوي ومعناهما: الصَّوتُ الخَفيُّ لا يكادُ يُفهَمُ. فَرَأتْ أُمُّ ابنِ صَيَّادٍ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وَهوَ «يَتَّقي»، أي: يُخْفي نَفْسَه بِجُذوعِ النَّخلِ حَتَّى لا يراه ابنُ صَيَّادٍ فينتبِهَ له، فَقالَتْ لابْنِ صَيَّادٍ: «يا صافِ» وَهوَ اسْمُ ابْنِ صَيَّادٍ، «هَذا مُحَمَّدٌ» صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، «فَتَنَاهَى ابنُ صَيَّادٍ» أي: توقَّف عن فِعْلِه وقولِه الذي كان يَذكُرُه، فذكَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ لَوْ تَرَكَتْه أُمُّه وَلَم تُعلِمْه بِمَجيئِنا لأَظْهَر لَنا مِن حالِه ما نَطَّلِعُ بِه على حَقيقةِ أمرِهِ.
وفي الحَديثِ: عَرضُ الإِسلامِ على الصَّبيِّ الَّذي لَم يَبلُغْ.
وفيه: البحثُ والتقَصِّي قبل استصدارِ الأحكامِ.
وفيه: شِدَّةُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه في الحَقِّ.