باب ما جاء أن الله كتب كتابا لأهل الجنة وأهل النار
سنن الترمذى
حدثنا قتيبة قال: حدثنا الليث، عن أبي قبيل، عن شفي بن ماتع، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان، فقال: «أتدرون ما هذان الكتابان؟» فقلنا: لا يا رسول الله إلا أن تخبرنا، فقال للذي في يده اليمنى: «هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا»، ثم قال للذي في شماله: «هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا»، فقال أصحابه: ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه؟ فقال: «سددوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل»، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه فنبذهما، ثم قال: «فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير» حدثنا قتيبة قال: حدثنا بكر بن مضر، عن أبي قبيل، نحوه،: وفي الباب عن ابن عمر وهذا حديث حسن صحيح غريب وأبو قبيل اسمه حيي بن هانئ_________
كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم يُعلِّمُ أصحابَه رَضِي اللهُ عنهم ويُطلِعُهم على بعضِ مَعاني الغيبِ الَّتي علَّمَها اللهُ عزَّ وجلَّ له.
وفي هذا الحَديثِ يقولُ عبدُ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ رَضِي اللهُ عنهما: "خرَج علَينا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم وفي يَدِه كِتابانِ"، قيل: هُما كِتابانِ على الحَقيقةِ، وقيل: بل هو تمثيلٌ؛ وذلك أنَّ المتكلِّمَ إذا أرادَ تحقيقَ قولِه، وتَفْهيمَ غيرِه، واستحضارَ المعنى الدَّقيقِ الخَفِيِّ في مُشاهَدةِ السَّامعِ حتَّى كأنَّه يَنتَقِلُ إليه رأْيَ العينِ صورةً لصورةٍ، وأشار إليه إشارتَه إلى المحسوسِ، فالنَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لَمَّا كُوشِفَ بِحَقيقةِ هذا الأمرِ، وأطلَعَه اللهُ تعالى عليه إطلاعًا لم يَبقَ معَه خفاءٌ، فمَثَّل المعنى الحاصِلَ في قلبِه بالشَّيءِ الحاصلِ في يدِه.
والصواب أنَّه محمولٌ على الحقيقةِ مِن دونِ شائبةِ المجازِ والتَّأويلِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "أتَدْرون ما هذانِ الكِتابانِ؟، فقُلنا: لا، يا رسولَ اللهِ، إلَّا أن تُخبِرَنا"، أي: تُخبِرَنا بخبَرِهما فيُصبِحَ لنا عِلمٌ بهما، "فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم لِلَّذي"، أي: للكِتابِ الَّذي، "في يَدِه اليُمْنى: هذا كِتابٌ مِن ربِّ العالَمين فيه أسماءُ أهلِ الجنَّةِ وأسماءُ آبائِهم وقبائِلِهم"، أي: للتَّفصيلِ والتَّمييزِ بينَهم، "ثمَّ أُجمِلَ على آخِرِهم"، أي: أُثبِتَ مَجْموعُهم في آخِرِ ورَقةٍ، "فلا يُزادُ فيهم، ولا يُنقَصُ مِنهم أبَدًا"، أي: لا يتَغيَّرُ الحُكمُ فيهم، "ثمَّ قال"، أي: النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، "للَّذي"، أي: للكِتابِ الَّذي، "في شِمالِه: هذا كِتابٌ مِن رَبِّ العالَمينَ فيه أسماءُ أهلِ النَّارِ وأسماءُ آبائِهم وقَبائِلهم، ثمَّ أُجمِلَ على آخِرِهم، فلا يُزادُ فيهم ولا يُنقَصُ منهم أبَدًا".
فقال أصحابُه رَضِي اللهُ عنهم: "ففيمَ العمَلُ يا رسولَ اللهِ، إنْ كان أمرٌ قد فُرِغَ مِنه؟"، أي: فما الدَّاعي لعمَلِ العِبادِ إذا عُرِف حالُهم مِن الجنَّةِ والنَّارِ في عِلْمِ اللهِ الأزَليِّ؟ فقال صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "سَدِّدوا"، أي: اطلُبوا العَملَ بالاستِقامةِ والسَّعيِ في طلَبِ الجنَّةِ والبُعدِ عن النَّارِ، "وقارِبوا"، أي: واسْعَوْا في عمَلِ ما أُمِرتُم به بالقَدْرِ الَّذي لا يَكونُ فيه تَقصيرٌ أو غُلوٌّ، "فإنَّ صاحِبَ الجنَّةِ"، أي: المثبَتَ في أهلِ الجنَّةِ، "يُختَمُ له بعمَلِ أهلِ الجنَّةِ"، أي: يُوفَّقُ لأَنْ تَكونَ آخِرُ أعمالِه هي الَّتي توجِبُ دُخولَه إلى الجَنَّةِ، "وإنْ عَمِل أيَّ عمَلٍ"، أي: وإنْ عَمِلَ مِن قَبلُ بأعمالِ أهلِ النَّارِ، إلَّا أنَّها لا تُوجِبُ النَّارَ في حَقِّه، "وإنَّ صاحِبَ النَّارِ"، أي: المثبَتَ في أهلِ النَّارِ، "يُختَمُ له بعمَلِ أهلِ النَّارِ"، أي: يُوفَّقُ لأنْ تَكونَ آخِرُ أعمالِه هي الَّتي تُوجِبُ عليه دُخولَ النَّارِ، "وإنْ عَمِل أيَّ عملٍ"، وإنْ عَمِلَ مِن قبلُ بأعمالِ أهلِ الجنَّةِ.
قال عَبدُ اللهِ: "ثمَّ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بيدَيه"، أي: أشارَ بالكِتابَينِ، "فنبَذَهما"، أي: طرَحَهما بعدَما انتَهى مِن الكلامِ عنهما، وطرَح ما فيهِما مِن الكتابَين، لا بِطَريقِ الإهانةِ، بل نبَذَهما إلى عالِمِ الغيبِ، هذا إذا كان هناك كتابٌ حقيقيٌّ، وأمَّا على التَّمثيلِ فيكونُ المعنى: نَبَذَهما، أي: اليَدَينِ، ثمَّ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "فرَغ ربُّكم مِن العِبادِ"، أي: انتَهى مِن أمْرِهم بمِثلِ ما تقَدَّم، "فريقٌ في الجنَّةِ وفريقٌ في السَّعيرِ"، والسَّعيرُ: النَّارُ.
وأمَّا قولُه تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 38- 39]، فمَعْناه: لكلِّ انتهاءِ مُدَّةٍ وقتٌ مضروبٌ، فمَن انتَهى أجَلُه يَمْحوه، ومَن بَقي مِن أجَلِه يُبْقيه على ما هو مُثبَتٌ فيه، وكلُّ ذلك مُثبَتٌ عِندَ اللهِ في أمِّ الكتابِ، وهو القدَرُ، كما يَمْحو ويُثبِتُ، وهو القضاءُ، فيَكونُ ذلك عَينَ ما قُدِّر وجَرَى في الأجَلِ فلا يَكونُ تَغييرًا، أو المرادُ منه: مَحوُ المنسوخِ مِن الأحكامِ وإثباتُ النَّاسخِ، أو محوُ السَّيِّئاتِ مِن التَّائبِ، وإثباتُ الحسَناتِ بمُكافَأتِه وغيرِ ذلك، ويُمكِنُ أن يُقالَ: المحوُ والإثباتُ يتَعلَّقانِ بالأمورِ المعلَّقةِ على شَرطٍ دونَ الأشياءِ المُحْكَمةَ، أو المرادُ مَحْوُ ما في صُحفِ الملائكةِ وما في عِلْمِهم، وأمَّا ما في أمِّ الكتابِ فإنَّه لا يُمْحى منه شيءٌ؛ لأنَّ ما فيها المرادُ به عِلْمُ اللهِ تعالى القديمُ؛ ولا مَحْوَ فيه ولا إثباتَ، وسرُّ ذلك التَّعليقِ مع أنَّه لا يقَعُ إلَّا الموافِقُ للعلمِ القديمِ مَزيدُ التَّعْميَةِ على الملائكةِ المطَّلِعينَ على ذلك، وتحقيقُ انفرادِه تعالى بعِلْمِه القديمِ، وأنَّه لا يُمكِّنُ أحَدًا أن يَطَّلِعَ عليه إلَّا بالنِّسْبةِ لجُزئيَّاتٍ مُعيَّنةٍ؛ كإعلامِ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لِجَماعةٍ مِن أصحابِه على التَّعْيينِ أنَّهم مِن أهلِ الجنَّةِ، وغيرِ ذلك.