‌‌باب ما جاء في إشعار البدن

سنن الترمذى

‌‌باب ما جاء في إشعار البدن

حدثنا أبو كريب قال: حدثنا وكيع، عن هشام الدستوائي، عن قتادة، عن أبي حسان الأعرج، عن ابن عباس، «أن النبي صلى الله عليه وسلم قلد نعلين، وأشعر الهدي في الشق الأيمن بذي الحليفة، وأماط عنه الدم» وفي الباب عن المسور بن مخرمة.: «حديث ابن عباس حديث حسن صحيح» وأبو حسان الأعرج: اسمه مسلم «والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم»، «يرون الإشعار وهو قول الثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق» سمعت يوسف بن عيسى يقول: سمعت وكيعا يقول حين روى هذا الحديث، فقال: «لا تنظروا إلى قول أهل الرأي في هذا، فإن الإشعار سنة، وقولهم بدعة». وسمعت أبا السائب يقول: " كنا عند وكيع، فقال لرجل عنده ممن ينظر في الرأي: أشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول أبو حنيفة هو مثلة؟ قال الرجل: فإنه قد روي عن إبراهيم النخعي أنه قال: الإشعار مثلة، قال: فرأيت وكيعا غضب غضبا شديدا، وقال: أقول لك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول قال إبراهيم، ما أحقك بأن تحبس، ثم لا تخرج حتى تنزع عن قولك هذا "
‌‌

حَجُّ بيتِ اللهِ الحرامِ لِمَن استطاعَ إليه سبيلًا مِن أركانِ الإسلامِ، وقد حَجَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم حَجَّةَ الوَدَاعِ؛ فبيَّن للنَّاسِ مناسِكَهم، وقد نقَل لنا الصَّحابةُ رَضِي اللهُ عَنهم جميعَ هذه المناسِكِ، وبأدَقِّ تفاصيلِها.
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ رَضِي اللهُ عَنهما: "أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم لَمَّا أتى ذا الحُلَيفةِ"، أي: في حَجَّةِ الودَاعِ، وكان قد خرَجَ مِن المدينةِ نَهارًا لخَمْسٍ بَقِينَ مِن ذي القَعْدةِ بعد أن صلَّى الظُّهرَ أربعًا بالمدينةِ، وخرَج بين الظُّهرِ والعصرِ فنزَل بذي الحُلَيفةِ، وهو: موضِعٌ خارِجَ المدينةِ في طريقِ مكَّةَ، وهو مِيقاتُ أهلِ المدينةِ وبَينَه وبين مَكَّةَ 420 كليومترًا؛ فهو أبعدُ المواقيتِ عنها، "أشعَرَ الهَدْيَ"، أي: شَقَّ وكشَطَ جِلْدَ البَدَنةِ حتَّى يَسِيلَ منها الدَّمُ، فيكونَ ذلك عَلامةً على كونِها هَدْيًا، "مِن جانبِ السَّنامِ الأيمنِ"، أي: سَنامِ الإبلِ في أسفَلِه مِن ناحيةِ اليَمينِ، والسَّنامُ: أعلى ظَهْرِ البَعِيرِ، "ثمَّ أماط عنه"، أي: أزال ومسَحَ الدَّمَ عن الهَدْيِ، "ثمَّ قلَّده نَعْلينِ"، أي: علَّقَهما بعُنُقِه كالقِلادَةِ، "ثمَّ ركِبَ ناقتَه، فلمَّا استَوَتْ به البَيداءَ"، أي: علَتِ النَّاقةُ وارتفَعَتْ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم وهو على ظَهْرِها وصَعِدَت البَيْدَاءَ، والبَيداءُ في اللُّغةِ هي الصَّحْراءُ لا شَيءَ بها، والمقصودُ بها هنا اسمُ مَوضعٍ مخصوصٍ بينَ مَكَّةَ والمدينةِ، وهو مَكانٌ فوق عَلَمِي ذي الحُلَيفةِ إذا صُعِدَ مِن الوادي، وفي أوَّلِ البيداءِ بِئرُ ماءِ، ويَبعُد عن مكَّةَ حوالي 420 كيلومترًا، "أحرَمَ بالحَجِّ"، أي: لَبِسَ لِباسَ الإحرامِ، ونوَاهُ، ودخَل فيه، "وأحرَم عند الظُّهرِ"، أي: بعدَ صلاةِ الظُّهرِ، "وأهَلَّ بالحَجِّ"، أي: لَبَّى بالحَجِّ. وقد اختلفَتِ الرِّواياتُ في ابتِداءِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بالإهلالِ بالحجِّ؛ ففي بعضِها أنَّه أهَلَّ ولَبَّي بعد الصَّلاةِ، وفي بعضِها أنَّه أهلَّ عندما ركِبَ ناقَته ووضَعَ رِجلَه في الغَرْزِ، وفي بعضِها أنه أهلَّ بعدَما استوتْ به الناقةُ على البَيداءِ، وقد ورَدَ عِندَ أبي داودَ وأحمدَ وغيرِهما: أنَّه "قيل لابنِ عبَّاسٍ: كيف اختلَفَ النَّاسُ في إهلالِ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؟ فقالت طائفةٌ: أَهَلَّ في مُصلَّاه، وقالت طائفةٌ: حيثُ استوَتْ به راحلتُه، وقالت طائفةٌ: حين عَلَا البَيْداءَ؟ فقال: "سأُخبرُكم عن ذلك؛ إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم أهَلَّ في مُصلَّاه، فشَهِدَه قومٌ فأَخْبَروا بذلك؛ فلمَّا استَوتْ به راحلتُه أهلَّ، فشَهِدَه قومٌ لم يَشهدُوه في المرَّةِ الأولى، فقالوا: أهلَّ رسولُ الله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ السَّاعةَ، فأَخبَروا بذلك، فلمَّا علا البيداءَ أهلَّ فشَهِدَهُ قومٌ لم يَشهَدوه في المرَّتَينِ الأُوليَينِ، فقالوا: أهّلَّ رسولُ اللهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ السَّاعةَ فأخبَروا بذلك، وإنَّما كان أهّلَّ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم في مُصلَّاهُ"؛ فأوْضَحَ ابنُ عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما سَببَ الاختلافِ، وبيَّن أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم بدَأَ الإهلالَ في مسجدِ ذِي الحُلَيفةِ بعدَ الصَّلاةِ، ثم أهلَّ مرَّةً أخرى بعدَما ركِبَ ناقتَه، وهكذا.

وقِيل: جميعُ ذلك جائزٌ؛ جمعًا بين هذه الرِّواياتِ، والخلافُ فقط في الأفضلِ .