باب ما جاء في البيعين بالخيار ما لم يتفرقا1
سنن الترمذى
حدثنا واصل بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن فضيل، عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يختارا» قال: «فكان ابن عمر إذا ابتاع بيعا وهو قاعد قام ليجب له البيع»: وفي الباب عن أبي برزة، وحكيم بن حزام، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو، وسمرة، وأبي هريرة: «حديث ابن عمر حديث حسن صحيح» والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وهو قول الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وقالوا: «الفرقة بالأبدان لا بالكلام» وقد قال بعض أهل العلم: معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم «ما لم يتفرقا»، يعني: الفرقة بالكلام، والقول الأول أصح لأن ابن عمر هو روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعلم بمعنى ما روى وروي عنه أنه كان إذا أراد أن يوجب البيع مشى ليجب له، وهكذا روي عن أبي برزة
لَمَّا كانَ البيعُ قد يقَعُ أحيانًا بلا تَفكُّرٍ ولا تَرَوٍّ، فيَحْصُلُ للبائعِ أوِ المُشترِي نَدَمٌ على فَواتِ بَعضِ مَقاصدِه؛ جَعلَ له الشَّارعُ الحكيمُ أَمَدًا يَتمكَّنُ فيه مِن فسْخِ العَقدِ.
وفي هذا الحديثِ يُبيِّنُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هذا الأمَدَ فيَقولُ: «البَيِّعانِ بِالخيارِ ما لم يَتفرَّقَا»، أي: إنَّ كلًّا مِن البائعِ والمُشتري يَحِلُّ لكلِّ واحدٍ منهما فسْخُ العقدِ ما لم يَتفرَّقَا بِأبدانِهما عن مَكانِهما الَّذي تَبايَعا فيه، فإنْ صَدقَ كلُّ واحد منهما فيما يتعلَّقُ به مِنَ الثَّمَنِ ووَصْفِ الشَّيءِ المباعِ ونحْوِ ذلك، وبيَّنا ما يُحتاجُ إلى بَيانِه مِن عيبٍ ونحْوِه في السِّلعةِ والثَّمَنِ؛ بُورِكَ لهما في بَيعِهما، فكثُرَ نفْعُ المَبيعِ والثَّمَنِ وحَلَّت البَرَكةُ للطَّرَفَين؛ للبائعِ في الثَّمنِ، وللمُشتري في السِّلعةِ التي اشتَراها، ولكنْ إنْ كَتمَ البائعُ عَيبَ السِّلعةِ، وكَتَمَ المُشتري عَيبَ الثَّمَنِ، وكذَبَا على بعضهما؛ بأنْ كذَبَ البائِعُ في وَصْفِ السِّلعةِ بما فيها، وكذَبَ المُشتري في الوفاءِ بالثَّمنِ، أو ادَّعى أنَّه وافَقَ البائعَ على الشِّراءِ بأقلَّ ممَّا اتَّفَقا عليه واحتالَ حتَّى أتى وقْتُ البيعِ، أو كذَبَ المُشتري على البائعِ في ذِكرِ سَببِ شِراءِ السِّلعةِ؛ ليُنزِّلَ له البائعُ في الثَّمنِ، والحقيقةُ غيرُ ذلك، فيَكونَا بذلك قدْ أخْفى كلٌّ منهما عن الآخَر ما في البدَلِ الَّذي يكونُ مِن جِهتِه، وغَشَّ كلٌّ الآخَرَ فيما عليه البدَلِ، ومِن الأمثلةِ الشائعةِ التي تدُلُّ على كَذِبِ المُشتري: كمَن ساوَمَ على سِعرِ أرضٍ بحُجَّةِ أنَّه سَيَبْنِيها مَسجدًا ليُنزِّلَ له البائعُ في الثَّمَنِ، وبعْدَ الإتمامِ بَناها لنفْسِه، وكان في الأصلِ يَنْوى بكَذِبِه إنزالَ الثَّمنِ فقطْ؛ «مُحِقَتْ بَرَكةُ بَيعِهما»، وأُذْهبَتْ زِيادتُه ونَماؤُه بسَببِ هذا الكذِبِ والغِشِّ المُتبادَلينِ منْهما.
وفي الحديثِ: إثباتُ خِيارِ المَجلسِ لكلٍّ مِنَ البائعِ والمشتري؛ مِن إمضاءِ البَيعِ أو فَسْخِه.
وفيه: أنَّ مُدَّةَ الخيارِ تكونُ مِن حِين العَقدِ إلى أنْ يَتفرَّقَا مِن مَجلسِ العَقدِ.
وفيه: أنَّ البيعَ يَلزمُ بِالتَّفرُّقِ بِأبدانِ المتبايعين مِن مَجلسِ العقدِ.
وفيه: بَيانُ وُجوبِ الصِّدقِ في البيعِ والشِّراءِ.
وفيه: أنَّ الدُّنيا لا يَتِمُّ حُصولُها إلَّا بالعمَلِ الصَّالحِ، وأنَّ شُؤمَ المَعاصي يُذهِبُ بخَيرِ الدُّنيا والآخِرةِ.
وفيه: بَيانُ فضْلِ الصِّدقِ، والحثُّ عليه، وأنَّه سَببٌ لبَرَكةِ كسْبِ العبْدِ.
وفيه: ذمُّ الكَذِبِ، والحثُّ على تَرْكِه، وأنَّه سَببٌ لذَهابِ البَرَكةِ مِن كسْبِ العبدِ.
وفيه: بَيانُ أنَّ عمَلَ الآخِرةِ يُحصِّلُ خَيرَي الدُّنيا والآخِرةِ.