باب ما جاء في الرجم على الثيب2
سنن الترمذى
حدثنا قتيبة قال: حدثنا هشيم، عن منصور بن زاذان، عن الحسن، عن حطان بن عبد الله، عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني، فقد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب جلد مائة، ثم الرجم، والبكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة»: هذا حديث صحيح والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم: علي بن أبي طالب، وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وغيرهم، قالوا: الثيب يجلد ويرجم، وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم، وهو قول إسحاق وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم: أبو بكر، وعمر، وغيرهما: الثيب إنما عليه الرجم ولا يجلد وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا في غير حديث في قصة ماعز وغيره، أنه أمر بالرجم ولم يأمر أن يجلد قبل أن يرجم، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، وهو قول سفيان الثوري، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد
الزِّنا مَفْسدَتُه مِن أعظَمِ المفاسِدِ؛ لِما فيه مِن اختلاطِ الأنسابِ، واستباحةِ الفُروجِ والحُرماتِ، ووُقوعِ العَداوةِ والبَغضاءِ بيْن النَّاسِ، وهو مِنَ الجرائِمِ الَّتي أوجَبَ اللهُ تعالَى فيها الحدَّ عُقوبةً على فاعلِها، وهي عُقوبةٌ مُقدَّرةٌ حَدَّدها اللهُ تعالَى في كِتابِه، وعلى لِسانِ نَبيِّه.
وفي هذا الحديثِ يَرْوي عُبادةُ بنُ الصَّامتِ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان إذا أُنزلَ عليه الوحيُ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ، أصابَه الكَرْبُ لِذلكَ، وتَربَّدَ له وجْهُه، أي: تَعْلوه غُبرةٌ وتَغيَّرَ البياضُ إلى السَّوادِ، وإنَّما حصَلَ ذلك لِعَظمِ الوحْيِ وشِدَّتِه، وما فيه مِن أوامرَ ونَواهٍ وما يَتطلَّبُ مِن حُقوقِ العُبوديَّةِ والقيامِ بشُكرِه تعالَى، ويَخافُ على العُصاةِ مِن أُمَّتِه أنْ يَنالَهم غضَبٌ مِن اللهِ سُبحانه، فيَأخذه الغَم الَّذي يَأخُذُ بالنَّفْسِ.
وأخبَرَ عُبادةُ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أُنْزلَ عليه الوحيُ ذاتَ يومٍ، فَلقِيَ مِن هذه الشِّدَّةِ مِثلَ ذلك، فلمَّا كُشِف ذلك الكرْبُ، وأُزِيلَ عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بانتهاءِ الوحْيِ، قالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «خُذوا عنِّي»، أي: افْهَمُوا وتَعلَّموا عنِّي ما قدْ بلَّغْتُ به وما أُنزِلَ علَيَّ، فقدْ جَعَلَ اللهُ للنِّساءِ الَّتي وَقَعَت في الزِّنا سَبيلًا، فقَدْ كان الحُكمُ في أوَّلِ الأمرِ حَبْسَ النِّساءِ -اللَّاتي ثَبَتَ عليهنَّ الزِّنا- في البيوتِ إلى أنْ يَمتُنْ، كما قال اللهُ تعالَى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15]، وظلَّ الأمرُ كذلك حتَّى نزَلَ قولُه تعالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، فالسَّبيلُ الَّذي جَعَله اللهُ هو النَّاسخَ لِما سَبَق، ثمَّ وَضَّحه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: «الثَّيِّبُ بالثَّيِّبِ» أي: حَدُّ زِنَا الثَّيِّبِ بِالثَّيِّبِ، «وَالْبِكْرُ بِالْبِكْرِ» أي: وحَدُّ زِنا البِكْرِ بِالبِكْرِ، أنَّ المرأة الَّتي كانتْ مُحْصَنةً بالزَّواجِ أو الَّتي سَبَق لها الزَّواجُ إذا زَنَت أنْ تُجلَدَ مائةَ جَلْدةٍ، ثُمَّ تُرجَمَ بالحجارةِ حتَّى الموتِ، وحَدُّ المرأةِ البِكْرِ -وهي الَّتي لم يَسبِقْ لها الزَّواجُ- الَّتي تَزْني مع الذَّكرِ البِكرِ، أنْ يُضرَبَ كلُّ واحدٍ مِائةَ جَلْدةٍ، ثُمَّ يُنْفى ويُطرَدَ سَنةً خارِجَ بَلدتِه.
والجَلْدُ مَنسوخٌ في حقِّ الثَّيِّبِ بِالآيةِ الَّتي نُسِخَتْ تِلاوتُها وبَقِي حُكْمُها، كما عندَ ابنِ ماجهْ عن عُمرَ بنِ الخطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه كان ممَّا يُقرَأُ في القرآنِ: «الشَّيخُ والشَّيخةُ إذا زَنَيا فارْجُمُوهما الْبَتَّةَ».
وأيضًا جاءتِ السُّنَّةُ بعُقوبةٍ زائدةٍ على الجَلْدِ المذكورِ في القرآنِ، وهي تَغريبُ البِكرِ ونَفْيُه مِنَ البلدِ الَّتي ارتَكَبَ فيها الزِّنا لمدَّةِ عامٍ تَأديبًا له، وإبعادًا له عن مَألوفاتِه، وعمَّا كان عليه، ويكونُ النَّفيُ بحَسبِ ما يَراهُ وليُّ الأمرِ مُناسِبًا، ويصِحُّ أنْ يُطلَقَ عليه نَفْيًا مِن حيثُ بُعدُ المسافةِ.
وقولُه: «الثَّيِّبُ بالثَّيِّبِ، والبِكرُ بالبِكرِ» ليْس على سَبيلِ الاشتراطِ، بلْ حَدُّ البِكرِ الجَلدُ والتَّغريبُ، سواءٌ زَنى ببِكرٍ أمْ ثَيِّبٍ، وحدُّ الثَّيِّبِ الرَّجمُ، سواءٌ زَنى بثَيِّبٍ أم بِكرٍ، فهو شَبيهٌ بالتَّقييدِ الَّذي يَخرُجُ على الغالبِ.
وفي الحديثِ: بيانُ حدِّ الزَّاني إذا كانَ مُحْصَنًا أو بِكْرًا.
وفيه: أنَّ السُّنَّةَ حاكمةٌ ومَصدَرٌ للتَّشريعِ مِثلَ القرآنِ الكريمِ، وتُوضِّحُ مُجْمَلُه وتُضِيفُ أحكامًا.