‌‌باب ما جاء في الرخصة أن ينبذ في الظروف

سنن الترمذى

‌‌باب ما جاء في الرخصة أن ينبذ في الظروف

حدثنا محمد بن بشار، والحسن بن علي، ومحمود بن غيلان، قالوا: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني كنت نهيتكم عن الظروف، وإن ظرفا لا يحل شيئا ولا يحرمه، وكل مسكر حرام»: هذا حديث حسن صحيح
‌‌

النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم حَريصٌ عَلى المُسلمينَ وعَلى ما فيه صَلاحُهم وخَيرُهم، وكان رُبَّما يَأمُرُ بشَيءٍ أو يَنْهى عنه في وَقتٍ مُعيَّنٍ وَفي ظُروفٍ مُعيَّنةٍ لحِكمةٍ، ثُمَّ يُغيِّرُ الأَمرَ والنَّهيَ بعْدَ زَوالِ الظُّروفِ لحِكمةٍ أُخرى.
وفي هذا الحَديثِ يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: «نَهيْتُكم عَن الظُّروفِ»، أي: نَهيْتُكم قبْلَ ذلك عن بَعضِ الأَواني والأَوْعيةِ الَّتي كانتْ تُستعمَلُ في حِفظِ الطَّعامِ والشَّرابِ، ومِن تلكَ الأوْعيةِ الَّتي نَهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم عن استعمالِها: الدُّبَّاءُ، وهوَ القَرْعُ إذا يَبِسَ وجَفَّ استُخدِمَ وعاءً، والنَّقِيرُ، وهوَ ما يُنقَرُ ويُجوَّفُ مِن جُذوعِ النَّخلِ، والمزفَّتُ، وهو ما طُلِيَ بالزِّفتِ، والحَنْتَمُ، وهي الجِرارُ الخُضْرُ مِن الأواني الفَخَّاريَّةِ المصنوعُة مِن الطِّينِ والدَّمِ والشَّعرِ. وقد نَهيُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم عنها سدًّا للذَّريعةِ؛ لئلَّا يقَعَ الإسكارُ بسَببِها؛ لكونِ هذه الأوعيةِ تُساعِدُ عليه، فيَصيرُ الشَّرابُ خمْرًا وهمْ لا يَظُنُّون ذلك، فيَقَعون فيما نَهى اللهُ عنه.
ثمَّ قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: «وإنَّ الظُّروفَ -أو ظَرْفًا- لا يُحِلُّ شيئًا ولا يُحرِّمُه»، والظَّرْفُ: هوَ الوِعاءُ أو الإِناءُ، والمعنى: أنَّ تلكَ الأوعِيةَ لم تُحرَّمْ بذاتِها، وإنَّما حُرِّمتْ بسَببِ ما كانتْ تُؤثِّرُ به في الشَّرابِ الَّذي يُوضَعُ فيها، فتُسرِعُ في تَحويلِ ما فيها إلى خَمرٍ. وهذا كِنايةٌ عن إباحتِه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم لاستِعمالِ ما كان يَنهى عنه مِن تلكَ الأَواني، فإذا ما تحوَّلَ ما بها إلى خَمرٍ نُهِيَ عن شُربِه.
ثمَّ قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: «وكُلُّ مُسكِرٍ حَرامٌ»، أي: إنَّ القاعِدةَ في حِلِّ الأوْعِيةِ وحُرْمتِها هو أنَّ كلَّ شَرابٍ يُذهِبُ بالعقلِ ويُغيِّبُه، فهو حَرامٌ، وهذا القَولُ مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أصْلٌ في تَحْريمِ تَناوُلِ جَميعِ المُسكِراتِ المُغطِّيةِ للعَقلِ، على اختِلافِ أشْكَالِها وألْوانِها.
وفي الحَديثِ: بَيانُ حِرصِ الإسْلامِ على سَلامةِ العَقلِ ويَقظَتِه؛ فهو مَناطُ التَّكْليفِ.