باب ما جاء في الصلاة في مسجد بيت المقدس 1
سنن ابن ماجه
حدثنا عبيد الله بن الجهم الأنماطي، حدثنا أيوب بن سويد، عن أبي زرعة الشيباني يحيى بن أبي عمرو، حدثنا عبد الله بن الديلمي
عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لما فرغ سليمان ابن داود عليهما السلام من بناء بيت المقدس سأل الله ثلاثا: حكما يصادف حكمه، وملكا لا ينبغي لأحد من بعده، وألا يأتي هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أما اثنتان فقد أعطيهما وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة" (1).
فضَّلَ اللهُ سُبحانَه بعضَ الأنبياءِ على بعضٍ، وأعطَى لكلٍّ منهم ما يُمَيِّزُه عن غيرِه، وقد أعطى اللهُ سُبحانَه لنَبِيِّه سُليمانَ بْنِ داودَ عليهما السَّلامُ مُلْكًا وحُكْمًا، كما أخبَرَ في قولِه تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ * وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: 16- 17]، وفي هذا الحديثِ يُخْبِرُ عبدُ اللهِ بنُ عمرٍو، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: "لمَّا فرَغَ سُليمانُ بنُ داودَ مِن بِناءِ بيتِ المقدِسِ، سأَلَ اللهَ ثلاثًا"، أي: دعا وطلَبَ مِن اللهِ ثلاثةَ أُمورٍ؛ الأُول: سألَه "حُكْمًا يُصادِفُ حُكْمَه"، أي: يوافِقُ حُكْمَ اللهِ، والمُرادُ: التَّوفيقُ للصَّوابِ في الاجتهادِ وفصْلِ الخُصوماتِ بين النَّاسِ. والثَّاني: "ومُلْكًا لا ينْبَغي لأحدٍ مِن بعدِه"، أي: طلَبَ مُلْكًا لا يكونُ مثلُه لغيرِه مِن البشَرِ بعدَه، ولعلَّ مُرادَه: أنْ يكونَ هذا المُلْكُ لعظمتِه مُعجزةً له؛ فيكونُ سببًا للإيمانِ والهدايةِ، ولكونِه مَلِكًا أراد أنْ تكونَ مُعجزتُه ما يُناسِبُ حالَه، أو كأنَّه سأَلَ اللهَ منْعَ الخلْقِ مِن سُؤالِ وطلَبِ هذا المُلْكِ مِن بعدِه؛ حتَّى لا يتعلَّقَ به أمَلُ أحَدٍ، ولم يسأَلْ منْعَ الإجابةِ. وقيل: طلَبَ ذلك ليكونَ مَحلُّه وكرامتُه مِن اللهِ ظاهرًا في خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ؛ فإنَّ الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ لهم تنافُسٌ في المَحَلِّ عنده؛ فكلٌّ يُحِبُّ أنْ تكونَ له خُصوصيَّةٌ يُسْتَدَلُّ بها على مَحَلِّه عنده، فلو أُعْطِيَ أحدٌ بعدَه مثلَه ذهَبَتِ الخُصوصيَّةُ، فسخَّرَ اللهُ تعالى له الرِّيحَ تحمِلُه بعسكَرِه وجُنودِه إلى حيث أراد، وسخَّرَ له الشَّياطينَ يجْعَلونَ له ما يشاء مِن مَحاريبَ وتماثيلَ وجِفانٍ كالجَوابِ، وقُدورٍ راسياتٍ، وسخَّرَ له آخرينَ مُتمرِّدينَ، يقرُنُهم في السَّلاسِلِ وقُيودِ الحديدِ؛ تعذيبًا لهم حتَّى يرْجِعوا عن تمرُّدِهم، ثمَّ امْتَنَّ اللهُ تعالى عليه، حيث قال: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص: 39]، أي: هذا المُلْكُ عطاؤنا، فأعْطِ مَن شئْتَ، وامنَعْ مَن شئْتَ، فلا حسابَ عليك.
والثَّالث: "وألَّا يأتِيَ هذا المسجِدَ أحدٌ"، أي: المسجِدَ الأقصى، "لا يُريدُ إلَّا الصَّلاةَ فيه"، أي: لا يَقصِدُه إلَّا للصَّلاةِ، "إلَّا خرَجَ مِن ذُنوبِه كيومِ ولدَتْه أُمُّه"، أي: يُغْفَرُ له كلُّ ذُنوبِه ويُطَهَّرُ منها لا يشوبُه منها شيءٌ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "أمَّا اثنتانِ فقد أُعْطِيَهما"، أي: استجابَ اللهُ عزَّ وجلَّ له، "وأرجو أنْ يكونَ قد أُعْطِيَ الثَّالثةَ" أي: أنْ يستجيبَ اللهُ لسُليمانَ في طلَبِ المغفرةِ لمَن قصَدَ المسجِدَ الأقصى بالصَّلاةِ، كما استجاب اللهُ دعاءَه في أمْرِ الدُّنيا.
وفي الحديثِ: بيانُ فَضيلةِ نَبِيِّ اللهِ سُليمانَ عليه السَّلامُ.