باب ما جاء في القرن الثالث1
سنن الترمذى
حدثنا واصل بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن الفضيل، عن الأعمش، عن علي بن مدرك، عن هلال بن يساف، عن عمران بن حصين قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي من بعدهم قوم يتسمنون ويحبون السمن يعطون الشهادة قبل أن يسألوها»: هكذا روى محمد بن فضيل هذا الحديث، عن الأعمش، عن علي بن مدرك، عن هلال بن يساف وروى غير واحد من الحفاظ هذا الحديث، عن الأعمش، عن هلال بن يساف ولم يذكروا فيه علي بن مدرك وحدثنا الحسين بن حريث قال: حدثنا وكيع، عن الأعمش قال: حدثنا هلال بن يساف، عن عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه وهذا أصح عندي من حديث محمد بن فضيل وقد روي من غير وجه عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم
فاضَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بين المُسلِمين على أساسِ قُوَّةِ التدَيُّنِ وقُوَّةِ الإيمانِ، كما فاضَلَ في أحاديثَ مُتعَدِّدةٍ بين أصحابِه وغَيرِهم.
وفي هذا الحَديثِ يُبَيِّنُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ خَيْرَ القُرونِ قَرْنه الَّذي هو فيهِ، وهُم الصَّحابةُ، والمرادُ بالقَرْنِ: أهلُ زَمانٍ واحِدٍ، ثُمَّ الَّذينَ يَلونَهم، وهُم التَّابِعونَ، ثُمَّ الَّذينَ يَلونَهم وهُم أتْباعُ التَّابِعينَ، فالصَّحابةُ همْ أفضلُ المسلمينَ؛ لأنَّهم عاصَروا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ووضَّح لهمْ أمورَ الدِّينِ وأخَذُوه عنه مُباشرةً، فهم أفضلُ الناسِ عِلمًا بسُنَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومقاصدِ التَّشْريعِ، وعلى أَيديهمْ تمَّ نَشْرُ الدينِ في الفُتوحاتِ والغَزواتِ، ثمَّ أخذَ التابِعونَ العِلمَ مِنهمْ وتابَعوا مسيرةَ الجِهادِ، وهكذا إلى أن يتباعدَ الزَّمانُ عنْ زمانِ النبوَّةِ فيبعُدونَ عن الهَدْيِ والسنَّةِ وصحيحِ الدِّينِ شيئًا فَشيئًا.
ثُمَّ يأتي بَعْدَهم قَومٌ يَنذِرونَ، والنَّذْرُ هو إيجابُ المرْءِ فِعلَ أمْرٍ على نَفْسِه لم يُلزِمْه به الشَّارعُ، كأنْ يقولَ الإنسانُ: علَيَّ ذَبيحةٌ، أو أتصدَّقُ بكذا إنْ شفَى اللهُ مَريضي؛ فهو في صُورةِ الشَّرطِ على اللهِ عزَّ وجلَّ، ومع ذلك لا يوفون بهذا النَّذرِ إن تحقَّق مَطلَبُهم.
«ويَخونونَ» فيُضَيِّعون الأماناتِ «ولا يُؤْتَمَنونَ»؛ لِأَنَّهُم يَخونونَ خِيانةً ظاهِرةً، بِحَيثُ لا يَأْمَنُهم أحَدٌ بعْدَ ذلكَ، «ويَشهَدونَ ولا يُسْتَشْهَدونَ»، أي: يَتَحمَّلونَ الشَّهادةَ بِدونِ التَّحميلِ، أو يُؤدُّونها بِدونِ الطَّلَبِ، استِهْتارًا وليسَ منْ بابِ الحِرصِ على إيصالِ الحقوقِ لأصحابِها.
وهذا يبدو مخالِفًا في الظَّاهِرِ للحديثِ الآخَرِ عند ابنِ ماجَهْ: «خَيْرُ الشُّهُودِ مَنْ أدَّى شهادَتَهُ قَبْلَ أنْ يُسأَلَها»، والجَمعُ بينهما إمَّا بأن يُحمَلَ الذَّمُّ على من بادر بالشَّهادةِ في حَقِّ من هو عالمٌ بها قبل أن سألها صاحِبُها، ويكونُ المدحُ لمن كانت عنده شهادةٌ لأحَدٍ لا يَعلَمُ بها، فيُخبِرُه ليستشهِدَ به عند القاضي، أو يُحمَلَ الذَّمُّ على الشَّهادةِ الباطِلةِ التي هي شهادةُ الزُّورِ، أمَّا المبادرةُ إلى الشَّهادةِ الصَّحيحةِ مِن أجْلِ إظهارِ الحَقِّ، وإعانةِ المظلومِ، ودَفْعِ الظُّلمِ عنه، فإنها عمَلٌ صالحٌ يُؤجَرُ ويثابُ عليه صاحِبُه، والأحاديثُ يُفَسِّرُ بَعْضُها بعضًا.
ومن علامةِ هؤلاء الضَّالِّين أنْ يَظهَر فيهم السِّمَنُ، وهو كَثرةُ اللَّحمِ والشَّحمِ في الأجسامِ، أو هُم يَتكثَّرون بِما لَيْسَ فيهم مِن الشَّرَفِ، أو يَجمَعونَ الأموالَ أو يَغفُلونَ عن أمْرِ الدِّينِ.
وفي الحَديثِ: إشارةٌ إلى لُزومِ اتِّباعِ سَبيلِ القُرونِ الثَّلاثةِ الأُولى؛ فإنَّ مَن قَرُبَ زَمَنُه مِن زَمنِ النُّبوَّةِ فهو أَوْلَى بالفضْلِ والعِلمِ والتَّأسِّي والاقتداءِ بهَدْيِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وفيه: ذمُّ التَّساهُلِ في أُمورِ الشَّهاداتِ والأَيْمانِ.