باب ما جاء في صلاة رسول الله ﷺ في مرضه 3
سنن ابن ماجه
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الله بن نمير، عن هشام ابن عروة، عن أبيه
عن عائشة، قالت: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر أن يصلي بالناس في مرضه، فكان يصلي بهم، فوجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خفة، فخرج، وإذا أبو بكر يؤم الناس، فلما رآه أبو بكر استأخر فأشار إليهرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي كما أنت، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حذاء أبي بكر إلى جنبه، فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والناس يصلون بصلاة أبي بكر (1).
كان أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ رَضيَ اللهُ عنه أحَقَّ المسلِمينَ بخِلافةِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعدَ مَوتِه، رغمَ إعراضِ المُعرِضين، وإنكارِ أهلِ البِدَعِ الغالِينَ، وقد تَعدَّدتِ الدَّلالاتُ والإشاراتُ مِن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في هذا الشَّأنِ، ومنها هذا الحديثُ؛ فإنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عندما مَرِضَ أمَرَ أبا بكرٍ رَضيَ اللهُ عنه أنْ يَخلُفَه في الصَّلاةِ بالمُسلِمين، وهذه إشارةٌ منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِمَن هو أحَقُّ بخِلافتِه، وأجدَرُ على القيامِ بوَظائفِ رِسالتِه، فلمَّا وجَدَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في نفْسِه خِفَّةً وشَعَر بالقُدرةِ على الخروجِ للصَّلاةِ، خرَجَ، وكان أبو بكرٍ رَضيَ اللهُ عنه وَقتَها يَؤُمُّ النَّاسَ في الصَّلاةِ، فلمَّا رآهُ أبو بكرٍ رَضيَ اللهُ عنه أراد أنْ يَتأخَّرَ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولكنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أشار إليه بأنْ يَبقَى كما هو، فجلَسَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بجانبِه لا يَتقدَّمُ عليه ولا يَتأخَّرُ عنه، فكان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هو الإمامَ، واقتدَى أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه بصَلاةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَأمومًا، فكان قائمًا والنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جالسًا، وكان النَّاسُ قيامًا أيضًا، يُصلُّون بصَلاةِ أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه؛ لأنَّهم كانوا لا يرَوْنَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ولا يَسمَعون صَوتَه؛ لضَعفِه، فكانوا يتَّبِعون أبا بكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، الَّذي كان يَتَّبِعُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في صَلاتِه. وقيل: بلْ كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إمامًا لأبي بَكرٍ، وكان أبو بَكرٍ إمامًا للناسِ الذين وَراءَه، فكانت تلك الصَّلاةُ بإمامينِ. وعلى هذا فقدْ صلَّى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إمامًا وهو جالسٌ والناسُ خلْفَه قِيامٌ.وقد وَرَدَ الأمرُ بمُتابَعةِ الإمامِ؛ إنْ صلَّى قائمًا صلَّى المأمومُ قائمًا، وإنْ صلَّى جالِسًا صلَّى المأمومُ جالِسًا، كما في حديثِ البُخاريِّ: «وإذَا صَلَّى جالِسًا، فصَلُّوا جُلُوسًا أجْمَعُونَ». وأُجِيبَ عن ذلك بأنَّ أبا بَكرٍ ابتَدَأَ بهم الصَّلاةَ قائمًا، ولم يَبتدِئْ بهم جالِسًا، فإذا عرَضَ الجلوسُ للإمامِ أثناءَ صَلاتِه وقد بَدَأَ الصلاةَ قائمًا، أكمَلَ المأمومُ صَلاتَه قائمًا، وبهذا يُجمَعُ بيْن الحديثينِ. وقيل: إنَّ الأمرَ بالجُلوسِ خلْفَ الإمامِ الجالسِ مَنسوخٌ بفِعلِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الأخيرِ في هذا الحديثِ؛ لأنَّه هو المؤخَّرَ قُبَيلَ وَفاتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. وفي الحديثِ: دَلالةٌ على أنَّ أبا بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه أفضلُ النَّاسِ بعدَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأَوْلاهم بخِلافتِه.وفيه: مَشروعيَّةُ الصَّلاةِ جالسًا لمَن لا يَقوَى على القِيامِ.وفيه: الأدَبُ مع الكبيرِ، حيثُ أراد أبو بكرٍ التَّأخُّرَ عن الصَّفِّ لمَقامِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.وفيه: مَشروعيَّةُ أنْ يَقطَعَ الإمامُ الاقتداءَ به، ويَقتدِي هو بغيرِه مِن غيرِ أنْ يَقطَعَ الصلاةَ.وفيه: الحضُّ على شُهودِ الجَماعةِ والمُحافَظةِ عليها.