باب ما جاء في فضل التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد2
سنن الترمذى
حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا مرحوم بن عبد العزيز العطار قال: حدثنا أبو نعامة السعدي، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي موسى الأشعري، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة، فلما قفلنا أشرفنا على المدينة فكبر الناس تكبيرة ورفعوا بها أصواتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم ليس بأصم ولا غائب، هو بينكم وبين رءوس رحالكم»، ثم قال: " يا عبد الله بن قيس، ألا أعلمك كنزا من كنوز الجنة: لا حول ولا قوة إلا بالله ". هذا حديث حسن صحيح. وأبو عثمان النهدي اسمه: عبد الرحمن بن مل. وأبو نعامة اسمه: عمرو بن عيسى. ومعنى قوله بينكم وبين رءوس رحالكم إنما يعني علمه وقدرته
كان الصَّحابةُ رِضْوان اللهُ عليهم يُكبِّرون ويَرْفَعون أصواتَهم بالتَّكبيرِ عِندَما يَرجِعون مِن الغزوِ؛ رغبةً في الأجرِ والثَّوابِ والفضلِ مِن اللهِ، فبَيَّن لهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ألَّا يَشُقُّوا على أنفُسِهم ولا يُجهِدوها؛ فإنَّ اللهَ يَسمَعُ أصواتَهم، ولا يَخْفى عليه شيءٌ مِن أمرِهم.
وفي هذا الحَديثِ يقولُ أبو موسى الأشعريُّ رَضيَ اللهُ عنه: "كنَّا معَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم في غَزاةٍ"، أي: في إِحْدى غزَواتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، قيل: هي غَزوةُ خَيبرَ، "فلمَّا قفَلْنا"، أي: انتَهَيْنا مِن الغزوةِ راجِعين، "أشرَفْنا على المَدينَةِ"، أي: اقتَرَبْنا منها، وأصبَحَت على مَرْمى البصَرِ، "فكبَّر النَّاسُ تَكبيرةً، ورفَعوا بها أصواتَهم"، أي: كانت أصواتُهم عاليةً ومُرتفِعةً بالتَّكبيرِ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "إنَّ ربَّكم ليس بأصَمَّ"، والأصَمُّ هو الَّذي لا يَسمَعُ، فنَفى النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم هذا عن اللهِ، وبيَّن لهم صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم أنَّ اللهَ جلَّ وعلا سميعٌ ليس به ما يَمنَعُه أنْ يَسمَعَكم، "ولا غائبٍ"، أي: فلا يَراكم ولا يُبصِرُكم، بل هو مُطَّلِعٌ عليكم ولا يَخْفى عليه أمرُكم وذِكرُكم، والمعنى: أنَّه ليس بكم حاجةٌ إلى أنْ تَرفَعوا أصواتَكم؛ فإنَّ اللهَ سميعٌ عليمٌ، "هو بينَكم وبينَ رؤوسِ رِحالِكم"، أي: إنَّ اللهَ قريبٌ مِن الذَّاكِرين والدَّاعين والسَّائلين، ولكن معَ قُربِ اللهِ إليهم فهو مُستَوٍ على عرشِه، قَريبٌ قُربًا يَليقُ بجَلالِه، وهذا القُربُ لا يتَنافى مع عُلوِّه عزَّ وجلَّ؛ فإنَّه ليس كمِثلِه شيءٌ سُبحانَه وتعالَى.
ثمَّ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "يا عبدَ اللهِ بنَ قيسٍ، ألَا أُعلِّمُك كنزًا مِن كُنوزِ الجنَّةِ؟"، أي: أُعلِّمُك شيئًا تُحصِّلُ به على الثَّوابِ الكبيرِ، والكَنزُ: هو المالُ النَّفيسُ والغالي، ثمَّ بيَّن له النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم أنَّ هذا الكنزَ هو كلمةُ: "لا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ"، وهي كلمةٌ فيها اعترافٌ مِن قائلِها بالإذعانِ والخضوعِ للهِ وتسليمِ الأمرِ إليه، ومعناها: أنَّه لا حِيلةَ للعَبدِ ولا تَحوُّلَ له عن مَعصيةِ اللهِ إلَّا بإذنِه، "ولا قُوَّةَ"، على الطَّاعةِ والدَّوامِ والثَّباتِ عليها إلَّا بإذنِ اللهِ وأمْرِه، وقيل مَعْناها: لا حولَ في دَفْعِ الشَّرِّ، ولا طاقةَ بجَلْبِ خَيرٍ إلَّا بإذنِ اللهِ.
وفي الحديثِ: بيانُ إحاطةِ اللهِ بخَلْقِه إحاطةً تامَّةً.
وفيه: عَظيمُ فَضلِ قولِ: "لا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ".