‌‌باب ما جاء في فضل المدينة5

سنن الترمذى

‌‌باب ما جاء في فضل المدينة5

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أن مولاة له أتته فقالت: اشتد علي الزمان، وإني أريد أن أخرج إلى العراق. قال: فهلا إلى الشام أرض المنشر اصبري لكاع، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من صبر على شدتها ولأوائها كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة» وفي الباب عن أبي سعيد، وسفيان بن أبي زهير، وسبيعة الأسلمية: «هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث عبيد الله»

خصَّ اللهُ سُبحانَه وتَعالَى بعضَ بِقاعِ الأرضِ بِبَركاتٍ لم يَجعَلْها في غيْرِها، وجعَلَ بعضَها مَوطِنَ الشُّرورِ والفِتنِ، وبعضَها مَوطِنَ الخيرِ والبَرَكاتِ، وقدِ اختُصَّتِ المدينةُ النبويَّةُ بكَثيرٍ منَ الخيرِ والبَرَكةِ والفَضلِ.
وفي هَذا الحَديثِ يَرْوي يُحَنَّسُ مَوْلى الزُّبَيرِ -أو مَوْلى مُصعَبِ بنِ الزُّبيرِ- أنَّه كان جالسًا عندَ عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ بنِ الخطَّابِ رَضيَ اللهُ عنهما، فجاءَتْه «مَوْلاةٌ له»، أي: عَتيقةٌ، «تُسلِّمُ عليه» تَسليمَ تَوْديعٍ، حتَّى تخرُجَ منَ المدينةِ، وكان ذلك في وقْتٍ حَدَثتْ به بعضُ الفِتَنِ بيْنَ المُسلِمينَ مِن قِتالٍ ونحوِه والظَّاهرُ أنَّه أرادَ فِتنةَ الحرَّةِ الَّتي وقَعَتْ في زمَنِ يَزيدَ بنِ مُعاويةَ، فقالتْ: «إِنِّي أردْتُ الخُروجَ» منَ المدينةِ، «يا أَبا عبدِ الرَّحمنِ» وهي كُنْيةُ عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنهما، وقالت: «اشتَدَّ عَلينا الزَّمانُ» وهذا بيانٌ لسبَبِ أنَّها تُريدُ الخُروجَ منَ المدينةِ، وتَعْني أنَّه اشتَدَّ القَحطُ في هذا الزَّمانِ بسَببِ الفِتْنةِ، فأَنْكرَ عَليها ذلكَ ابنُ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنهما، وحثَّها عَلى سُكْنى المَدينةِ؛ لِما فيهِ منَ الفَضلِ، فَقال: «اقْعُدي لَكاعِ»، وكلمةُ اللَّكاعِ: تُطلقُ عَلى اللَّئيمِ، وَعلى العبدِ، وَعَلى الغَبيِّ الَّذي لا يَهْتَدي لكَلامِ غَيرِه، وَعلى الصَّغيرِ، وإنَّما قالَ ابنُ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنهما لها هذا، تَبسُّطًا معَها، وإنْكارًا عليها إرادةَ الخروجِ منَ المدينةِ؛ لأنَّه لا يَنبَغي الخروجُ منها؛ لأجْلِ الشِّدَّةِ والمَشقَّةِ.
ثُمَّ بيَّنَ لها سَببَ أمْرِه إيَّاها بالبَقاءِ بالمَدينةِ؛ وذلك أنَّه سَمِعَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَقولُ: «لا يَصبِرُ عَلى لَأْوائِها»، وهوَ الشِّدَّةُ والجُوعُ، «إلَّا كنتُ لهُ شَهيدًا أو شَفيعًا يومَ القِيامةِ»، والمرادُ أنْ يكونَ شَهيدًا لبعضِ أَهلِ المَدينةِ، وشَفيعًا لبَقيَّتِهم، أو يكونَ شَفيعًا للعاصِينَ، وشَهيدًا للمُطيعينَ، أو شَهيدًا لمَن ماتَ في حياتِه، وشَفيعًا لمَن ماتَ بعدَه، أو تَكونَ لَفظةُ (أو) هنا بمَعنى الواوِ، ويَكونُ المَعنى أنَّه يكونُ شَفيعًا وشَهيدًا له، وهَذه خُصوصيَّةٌ زائدةٌ عَلى الشَّفاعةِ للمُذنِبينَ أو للعالَمينَ في القيامةِ، وَعلى شَهادتِه عَلى جميعِ الأُمَّةِ.
وفي الحَديثِ: الحَثُّ على سُكْنى المدينةِ.
وفيه: بيانُ فَضلِ الصَّبرِ على الشِّدَّةِ والجوعِ في المدينةِ.
وفيه: بيانُ فَضلِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على أهْلِ المدينةِ.