‌‌باب ما جاء في قتلى أحد وذكر حمزة

سنن الترمذى

‌‌باب ما جاء في قتلى أحد وذكر حمزة

حدثنا قتيبة قال: حدثنا أبو صفوان، عن أسامة بن زيد، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمزة يوم أحد، فوقف عليه فرآه قد مثل به، فقال: «لولا أن تجد صفية في نفسها، لتركته حتى تأكله العافية، حتى يحشر يوم القيامة من بطونها»، قال: ثم دعا بنمرة، فكفنه فيها، فكانت إذا مدت على رأسه بدت رجلاه، وإذا مدت على رجليه بدا رأسه، قال: فكثر القتلى، وقلت الثياب، قال: فكفن الرجل والرجلان والثلاثة في الثوب الواحد، ثم يدفنون في قبر واحد، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنهم: «أيهم أكثر قرآنا»، فيقدمه إلى القبلة، قال: فدفنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصل عليهم: «حديث أنس حديث غريب لا نعرفه من حديث أنس إلا من هذا الوجه»، " النمرة: الكساء الخلق "، وقد خولف أسامة بن زيد في رواية هذا الحديث، فروى الليث بن سعد، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن جابر بن عبد الله بن زيد، وروى معمر، عن الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة، عن جابر، ولا نعلم أحدا ذكره، عن الزهري، عن أنس إلا أسامة بن زيد، وسألت محمدا عن هذا الحديث، فقال: «حديث الليث، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن جابر أصح»
‌‌

قُتِلَ سيِّدُ الشُّهداءِ عندَ اللهِ تعالى عَمُّ النبيِّ حمزةُ بنُ عبدِ المطَّلِبِ رَضِي اللهُ عَنه، في غَزوةِ أحُدٍ، وقد حَزِنَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم أشَدَّ الحُزنِ لِمَقتَلِه، وتأَلَّم تألما شَديدًا لتَمثيلِ المشرِكين به.
وفي هذا الحديثِ يقولُ أنَسُ بن مالِك رَضِي اللهُ عَنه: "أتى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم على حَمزةَ يومَ أحُدٍ"، أي: في غَزوةِ أحُدٍ- وكانتْ في السَّنةِ الثَّالثةِ مِن الهِجْرةِ، وأحُدٌ جَبلٌ يقَعُ بالمَدينَة في شَماليِّها الغربيِّ، بينَه وبينَ المَدينَةِ ثلاثةُ أميالٍ (4.8كم تقريبًا) وفي هذِه الغَزوةِ قتَلَ وَحْشيُّ بنُ حربٍ حمزةَ رَضِي اللهُ عَنه عمَّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، "فوقَف" النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم "عليه"، أي: على حَمزةَ وعِندَ جُثَّتِه، "قد مُثِّل به"، أي: قطَعوا أنفَه وأُذنَه، وبَقَروا بطنَه، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم لَمَّا رآه هكذا: "لولا أن تَجِدَ صَفيَّةُ في نَفسِها"، أي: تَحزَنَ وتَجزَعَ نفْسُها له، وصفيَّةُ هي أختُ حَمزةَ لأبيه وأمِّه، وعمَّةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم؛ "لتَرَكتُه"، أي: ترَكتُ حمزةَ هكذا لا يُدفَنُ، "حتَّى تَأكُلَه العافيةُ"، أي: السِّباعُ والطُّيورُ الجارحةُ، "حتَّى يُحشَرَ يَومَ القيامةِ مِن بُطونِها"، أي: يَبعَثَه اللهُ مِن بطونِ هذه العَوافي؛ لِيَكونَ لِحَمزةَ رَضِي اللهُ عَنه الأجرُ كامِلًا، وتامًّا، ويكونَ جسَدُه كلُّه في سبيلِ اللهِ تعالَى.
قال أنسٌ رَضِي اللهُ عَنه: "ثمَّ دعا"، أي: النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، "بنَمِرةٍ"، والنَّمِرةُ: ثوبٌ مِن صُوفٍ يكونُ فيه خُطوطٌ، "فكَفَّنه فيها"، أي: في تلك النَّمِرةِ، "فكانَت إذا مُدَّتْ على رأسِه"، أي: أراد النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم أن يُغطِّيَ بها رأسَه، "بَدَتْ"، أي: ظهَرَت "رِجْلاه، وإذا مُدَّت على رِجلَيْه، بدا رأسُه"، وهذا كِنايةٌ عن قِصَرِها وقلَّةِ الثِّيابِ، قال أنَسٌ: "فكَثُر القَتْلى"، أي: كان عددُ مَن قُتِل في هذه الغزوةِ كثيرًا، "وقلَّت الثِّيابُ"، أي: وكانت الأكفانُ والثِّيابُ قليلةً، وليس عِندَهم كِفايةٌ، قال: "فكُفِّن الرَّجُلُ والرَّجُلانِ والثَّلاثةُ في الثَّوبِ الواحدِ"، أي: كان الثَّوبُ الواحدُ يكونُ كفَنًا للجَماعةِ مِن الرِّجالِ، يُقْسَمُ على اثنَينِ أو ثلاثةٍ، "ثمَّ يُدفَنون في قبرٍ واحدٍ"، أي: إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم كفَّنهم فقط، ولم يُغسِّلْهم ثمَّ دفَنهم، ويُقالُ: إنَّ المعنى في تَرْكِ غُسلِه ما جاء أنَّ الشَّهيدَ يَأتي يومَ القيامةِ وجُرْحُه يَدْمَى؛ الرِّيحُ رِيحُ المسكِ، واللَّونُ لونُ الدَّمِ، "فجعَل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم يَسأَلُ عنهم"، أي: عن القَتْلى، "أيُّهم أكثَرُ قُرآنًا فيُقدِّمُه؟"، أي: مَن كان أكثَرُهم حِفظًا للقُرآنِ فيُقدِّمُه "إلى القِبْلةِ"، أي: في اللَّحدِ وداخِلَ القَبرِ.
قال أنَسٌ رضِيَ اللهُ عنه: فدفَنَهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، "ولم يُصَلِّ عليهم"، أي: صلاةَ الجنازةِ، وهذا الحديثُ فيه أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لم يُصلِّ على شُهداءِ أُحدٍ، وكذا حَديثُ جابرٍ رضِيَ اللهُ عنه الذي رواه البخاريُّ، حيثُ قال في رِوايتِه: "ولم يُصَلِّ عليهم"، وصَلاةُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم على الشَّهيدِ مَوضِعُ خلافٍ؛ لتعدُّدِ النصوصِ في كِلا الأمرين؛ ففي الصَّحيحينِ عن عُقبةَ بنِ عامرٍ رضِيَ اللهُ عنه، قال: "صَلَّى رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم على قَتْلَى أُحُدٍ بَعْد ثَماني سِنينَ كَالْمُودِّعِ للأَحياءِ والأمواتِ"، وفي لفظٍ: "أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم خَرَج يَومًا فصَلَّى عَلى أهلِ أُحُدٍ صَلاتَه علَى الميِّتِ"، وأخرَجَ أبو داودَ من حديثِ أنسٍ رضِيَ اللهُ عنه: "أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم مرَّ بحَمزةَ، وقد مُثِّل به ولم يُصلِّ على أَحدٍ مِن الشُّهداءِ غيرِه"، واختُلِفَ في تَفسيرِ ذلك وتوجيهِه؛ لأنَّه قدْ ورَدَ في أحاديثَ أُخرَى أنَّ النبيَّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قد صلَّى على جَميعِ شُهداءِ أُحدٍ؛ فقيل: إنَّ المقصودَ أنَّه لم يُصلِّ مُستقِلًّا إلَّا على حَمزةَ رضِيَ اللهُ عنه، فإِنَّه لَمَّا كان موجودًا في كلِّ مرةٍ، وكان الآخَرُون يُحملونَ واحدًا بَعْد واحدٍ، فكأنَّه صلَّى عليه مستَقِلًّا ولم يُصَلِّ على غيرِه، وقيل: بلِ المرادُ أنَّه لم يُصَلِّ صَلاةَ الجِنازةِ على أَحَدٍ غيرِه ممَّن استُشهِدَ في أحُدٍ؛ فيَحتمِلُ أنْ يكونَ لم يُصلِّ على غيرِه؛ لشِدَّةِ ما به، وصلَّى عليهم غيرُه من الناسِ. وقيل: بل إنَّ صلاتَه صلَّى الله عليه وسلَّم مَحمولةٌ على الخُصوصيَّة، وقيل على غيرُ ذلك. وأمَّا الصَّلاةُ على شَهيدِ المعركة عُمومًا؛ فلعلَّ أقربَ الأقوالِ قولُ مَن أثبتَ الصَّلاةَ على الشَّهيدِ لثبوت ذلك عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في بَعضِ الأحاديثِ الأخرَى، لكنْ على سَبيلِ الجوازِ، لا على سَبيلِ الوُجوبِ، وهو ما عَبَّر عنه الإمامُ أحمد، بقولِه: الصَّلاةُ عليه أجودُ، وإنْ لم يُصلُّوا عليه أجزأ.
وفي الحديثِ: بيانُ فَضلِ حفَظةِ القرْآنِ.
وفيه: مَشروعيَّةُ تَكفينِ الجماعةِ في الثَّوبِ الواحدِ إذا ضاقَتِ الأكفانُ وكان هناك ضَرورةٌ.
وفيه: مَشروعيَّةُ دفْنِ الجماعةِ في القبرِ الواحدِ، وأنَّ أفضَلَهم يُقدَّمُ إلى القبلةِ.