‌‌باب ما جاء في لعق الأصابع بعد الأكل

سنن الترمذى

‌‌باب ما جاء في لعق الأصابع بعد الأكل

حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال: حدثنا عبد العزيز بن المختار، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أكل أحدكم فليلعق أصابعه، فإنه لا يدري في أيتهن البركة» وفي الباب عن جابر، وكعب بن مالك، وأنس: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث سهيل. وسألت محمدا عن هذا الحديث، فقال: «هذا حديث عبد العزيز من المختلف لا يعرف إلا من حديثه»
‌‌

علَّمنا الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ احتِرامَ النِّعمِ وتَقديرَها، كما حثَّ على شُكرِ المنَنِ والخيرِ الَّذي يُسخِّرُه سُبحانَه وتَعالَى للنَّاسِ، فعَلَّمَنا الكثيرَ مِن الآدابِ الخاصَّةِ بالطَّعامِ والشَّرابِ، وكَيفيَّةِ الوقايةِ مِن الشَّيطانِ.
وفي هذا الحديثِ يُبيِّنُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ الشَّيْطانَ يَحضُرُ الإنسانَ عندَ كلِّ شَيءٍ مِن شأْنِه، أي: في أمرِه كلِّه، ظاهرًا وباطنًا، عِبادةً وعادةً، فيَدخُلُ عليه بالوساوسِ وغيرِها؛ ليَكونَ له منه نَصيٌب، حتَّى إنَّه يَحضُرَ عند تَناوُلِ الإنسانِ طعامَه، وهذا يُوجِبُ على المسْلمِ أنْ يَتعوَّذَ باللهِ مِن الشَّيطانِ، ويُسمِّيَ اللهَ تعالَى عندَ حُضورِ الطَّعامِ؛ فإنَّه يُكْفى مَضرَّةَ الشَّيطانِ ووَسْوسَتَه.
ولهذا أرشَدَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى أنَّه إذا وقعَتْ مِن يَدِ أحدٍ اللُّقمَةُ على الأرضِ أنْ يُزِيلَ ويَمسَحَ ما علَقَ بها مِن أذًى، كالتُّرابِ ونحْوِه، وهذا إذا لم تقَعْ على مَوضعٍ نجِسٍ أو قَذرٍ، ولا يَترُكْها لِلشَّيطانِ ليَأكُلَها، ولأنَّ في تَركِها تَكبُّرًا عن أخْذِها ونِسيانَ حقِّ اللهِ تعالَى فيها وطاعةَ الشَّيطانِ في ذلك، وصارتْ تلك اللُّقمةُ مُناسِبةً للشَّيطانِ، فصارت طَعامَه، مع ما فيها مِن إضاعةِ نِعمةِ اللهِ تعالَى واستحقارِها.
ثمَّ قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «فإذا فرَغَ» الإنسانُ المسْلمُ مِن طَعامِه «فَلْيَلعَقْ»، أي: يَلْحَسْ أصابعَه؛ «فإنَّه لا يَدري في أيِّ طعامِه» أي: في أيِّ أَجزائِه، تَحصُلُ وتُوجَدُ «البركةُ» أفي السَّاقطِ، أم في الَّذي يكونُ في القَصعةِ، أم في الَّذي يكونُ على الأصابعِ، والبركةُ هي الزِّيادةُ وثبوتُ الخيرِ والانتفاعُ به، والمرادُ هنا: ما يَحصلُ به التَّغذيةُ وتَسلَمُ عاقبتُه مِن أذًى، ويُقوِّي على طاعةِ اللهِ، وغير ذلك.
وفي حَديثٍ آخَرَ عندَ مُسلمٍ مِن حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: «ولْيَسْلُتْ أحَدُكُم الصَّحْفةَ»، أي: وَلْيَمسَحْ ويَتتَّبعْ ما بَقيَ فيها مِنَ الطَّعامِ، والصَّحْفةُ هي الوعاءُ الَّذي يكونُ فيه الطَّعامُ، والَّتي يَأكُلُ عليها خمْسةُ أنفُسٍ، والمرادُ بها هنا مَطْلقُ الإناءِ، فهذا مِن جُملةِ الطَّعامِ الَّذي ربَّما يكونُ فيه البركةُ.
وهذا مِن بابِ حِفظِ نِعَمِ اللهِ سُبحانه، وشُكرِ مِننِه، وتَقديرِ الخيرِ الَّذي يُسخِّرُه سُبحانَه وتَعالَى للنَّاسِ، والطَّعامُ مِن أعظَمِ هذه النِّعمِ؛ فبِهِ حَياةُ الإنسانِ وقوَّتُه، كما جعَل فيه لذَّتَه؛ ولذلك أُمِر بالحمْدِ بعدَ تناوُلِه، والشُّكرِ على إحسانِه به، يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172]، ومِن شُكرِ نِعمةِ الطَّعامِ احتِرامُها وعدمُ إلقائِها، ورَفعُها عن مَواضِعِ الإهانةِ والقَذارةِ، وحِفظُها عمَّا يُفسِدُها.
وفي الحديثِ: بيانُ هَدْيِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في تناوُلِ الطَّعامِ.
وفيه: أنَّ مِن هدْيِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَعْقَ الأصابعِ بعدَ الطَّعامِ.
وفيه: التَّحذيرُ مِنَ الشَّيطانِ، والتَّنبيهُ على مُلازمَتِه الإنسانَ في سائرِ تَصرُّفاتِه.