باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء
حدثنا عبيد الله بن معاذ ، نا أبي ، نا عبد العزيز بن أبي سلمة ، عن عمه الماجشون بن أبي سلمة ، عن عبد الرحمن الأعرج ، عن عبيد الله بن أبي رافع ، عن علي بن أبي طالب، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة كبر، ثم قال: {وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا} مسلما وما أنا من المشركين، {إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، وأنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك، وإذا ركع قال: اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظامي وعصبي، وإذا رفع قال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، وإذا سجد قال: اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره فأحسن صورته وشق سمعه وبصره، وتبارك الله أحسن الخالقين، وإذا سلم من الصلاة قال: اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم والمؤخر، لا إله إلا أنت»
كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الصلاة، ويكثر التطوع والتنفل في النهار والليل، وكان له بعض من السنن والآداب في الصلاة، وكان صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يحرصون على معرفة تفاصيل عبادته؛ ليهتدوا بهديه، ويستنوا بسنته
وفي هذا الحديث يروي علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة أو النافلة، دعا الله عز وجل، وهو ما يعرف بدعاء الاستفتاح، وموقعه يكون بعد تكبيرة الإحرام وقبل قراءة الفاتحة، فكان صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: «وجهت وجهي»، أي: توجهت بالعبادة وأخلصتها لله الذي «فطر السموات والأرض»، أي: ابتدأ خلقهما من غير مثال سبق، وأنا في كل ذلك حنيف مائل عن الشرك إلى التوحيد، والحنيف عند العرب من كان على دين إبراهيم عليه السلام، وهو الإسلام، ثم زاد معنى الحنيف بيانا وتوضيحا، فقال: «وما أنا من المشركين» لا أشرك بالله شيئا، ولست من الموصوفين بالشرك، والمشرك يطلق على كل كافر؛ من عابد وثن وصنم، ويهودي ونصراني، ومجوسي، وغيرهم
ثم يدعو ويقول: «إن صلاتي» التي أصليها، والصلاة اسم جامع للتكبير والقراءة، والركوع والسجود، والدعاء والتشهد، وغيرها، «ونسكي» وهو العبادة، والنسيكة كل ما يتقرب به إلى الله تعالى، وتطلق على الذبيحة التي يتقرب بها لله تعالى، والناسك الذي يخلص عبادته لله تعالى، وكذلك حياتي ومماتي لله؛ فهو خالقهما ومقدرهما، أو هو المالك لهما، والمختص بهما، لا تصرف لغيره فيهما، وقيل: طاعات الحياة والخيرات المضافة إلى الممات كالوصية والتدبير، أو ما أنا عليه من العبادة في حياتي، وما أموت عليه؛ خالصة لوجه الله، «رب العالمين»، فهو مالكهم ومربيهم ومصلح شؤونهم ومدبرها، لا شريك له في ملكه، وقد أمرت بكل ذلك؛ بالتوحيد الكامل الشامل للإخلاص قولا واعتقادا، وأنا من المسلمين المستسلمين لأمر الله، الخاضعين له، المنقادين لطاعته، المقرين بكل هذه الصفات لله سبحانه، وهذا تأكيد لمعاني التوحيد والقبول لدين الله عز وجل
ثم أثنى على الله تعالى، واعترف بذنبه، وطلب منه المغفرة قائلا: «اللهم أنت الملك»، أي: المالك الحقيقي لجميع المخلوقات، «وأنا عبدك» معترف بأنك مالكي ومدبري، وحكمك نافذ في، «ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي» يعني: ظلمت نفسي بالتقصير في حقك، واعترفت بالتقصير، «فاغفر لي ذنوبي جميعا»، أي: تجاوز يا رب عن تقصيري، «إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» وهذا اعتراف وإقرار لله بصفة الغفران وحده، وفيه: اعتراف بالتقصير، وقدمه على طلب المغفرة تأدبا، كما قال آدم وحواء عليهما السلام: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} [الأعراف: 23]
ثم قال صلى الله عليه وسلم: «واهدني لأحسن الأخلاق»، أي: أرشدني لأكملها وأفضلها، ووفقني للتخلق بها، وثبتني عليها، «لا يهدي لأحسنها إلا أنت»، بيدك وحدك الهداية، فقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبهما كيف يشاء، «واصرف عني سيئها»، أي: باعد عني قبيحها والمذموم منها، «لا يصرف عني سيئها إلا أنت»، وهذا إقرار بأن الله سبحانه هو وحده القادر على رد القضاء وصرف السيئ منها عن عباده
ثم قال صلى الله عليه وسلم: «لبيك»، أي: أقيم على طاعتك وامتثال أمرك إقامة متكررة، «وسعديك»، أي: مساعدة لأمرك بعد مساعدة، ومتابعة لدينك بعد متابعة، «والخير كله في يديك»، معناه: الإقرار بأن كل خير واصل إلى العباد ومرجو وصوله، فهو في يديه تعالى، «والشر ليس إليك»، فلا ينسب الشر إليك، أو الشر لا يتقرب به إليك، أو الشر لا يصعد إليك، وإنما الكلم الطيب هو الذي يصعد، ثم قال: «أنا بك وإليك»، أي: إن توفيقي بك والتجائي وانتمائي إليك، أو وجودي بإيجادك، ورجوعي إليك، أو بك أعتمد، وإليك ألتجئ، «تباركت وتعاليت» هذا ثناء على الله عز وجل بأمرين: أحدهما التبارك، والتاء للمبالغة؛ لأن الله عز وجل هو أهل البركة، فكلمة «تباركت» تعني كثرت خيراتك، وعمت ووسعت الخلق؛ لأن البركة هي الخير الكثير الدائم، وثانيهما: «تعاليت» من العلو الذاتي والوصفي؛ فالله سبحانه وتعالى علي بذاته، وعلي بصفاته، علي بذاته فوق جميع الخلق، وعلوه سبحانه وتعالى وصف ذاتي أزلي أبدي، ثم قال: «أستغفرك وأتوب إليك» يعني: أطلب منك المغفرة ومحو الخطايا، فكان صلى الله عليه وسلم يستفتح صلاته بهذا الدعاء العظيم
وإذا ركع صلى الله عليه وسلم قال في ركوعه: «اللهم لك ركعت» وحدك، فلا أنحني لبشر أو خلق من خلقك، «وبك آمنت» بذاتك المقدسة، وأسمائك الحسنى، وصفاتك العلى، «ولك أسلمت»، أي: ذللت وانقدت، أو لك أخلصت وجهي، «خشع»، أي: خضع وتواضع لك «سمعي وبصري» وخصهما من بين الحواس؛ لأن أكثر الآفات بهما، فإذا خشعتا قلت الوساوس، وكذلك خشع لك «مخي وعظمي وعصبي»، والعصب -بفتحتين- هو أطناب الجسد، وهو عصبه التي تتصل بها المفاصل والعظام وتشدها، وهو ألطف من العظم
فإذا رفع رأسه من الركوع وقال: سمع الله لمن حمده، قال بعدها: «اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما بينهما»، ومعناه: أتوجه إليك يا ألله بالحمد الكامل والمكافئ لنعمك وأفضالك، كما تشاء من العدد، والمراد بهذا تكثير العدد؛ فلو قدر أن الحمد أجسام محسوسة، فلك من الحمد ما يملأ السموات والأرض وما بينهما. وقيل: الإشارة هنا إلى الصحف التي تكتب فيها المحامد. «وملء ما شئت من شيء بعد»، أي: وملء غير السموات والأرض مما شئت، مما لا علم للعباد به، وهذا من باب التعليم لأمته صلى الله عليه وسلم؛ وإلا فإن الله عز وجل قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر
ثم إذا سجد صلى الله عليه وسلم قال في سجوده قال: «اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه»، أي: خضع وذل وانقاد لله سبحانه، وخص الوجه بالذكر من بين أعضاء السجود؛ لأنه أشرفها، فالله تعالى هو الذي صوره وشق سمعه وبصره، فالذي خلق هذا الوجه، وجعل له ملامح يعرف بها، وفتح فيه العينين والأذنين، وأعطاهما الإدراك بالبصر والسمع؛ هو المستحق للعبادة والسجود والخضوع له، «تبارك الله» تقدس وتعالى وتسامى؛ فإنه الخالق المنفرد بالإيجاد من عدم، والتصوير على أحسن صورة، وهو سبحانه «أحسن الخالقين» المصورين والمقدرين
«ثم يكون»، أي: بعد فراغه من ركوعه وسجوده «من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: اللهم اغفر لي ما قدمت» من سيئة، «وما أخرت» من عمل، وقيل: ما قدمت قبل النبوة، وما أخرت بعدها، وقيل: ما أخرته في علمك مما قضيته علي، وقيل: معناه: إن وقع مني في المستقبل ذنب، فاجعله مقرونا بمغفرتك، فالمراد من طلب المغفرة قبل الوقوع أن يغفر الذنب إذا وقع، «وما أسررت، وما أعلنت» يعني اغفر لي جميع الذنوب؛ لأنها إما متقدمة أو متأخرة، وإما سر أو علن، واغفر لي «ما أسرفت» فيه فجاوزت الحد، «وما أنت أعلم به مني» من ذنوبي التي لا أعلمها، عددا وحكما، «أنت المقدم وأنت المؤخر» فلا مقدم لما أخرت، ولا مؤخر لما قدمت، «لا إله إلا أنت» لا معبود بحق إلا أنت سبحانك، لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، فختم بهذا الثناء على الله عز وجل الذي هو كلمة التوحيد وكلمة الإخلاص
فهذا حديث جامع لكثير من الأذكار التي تقال في أكثر من موضع في الصلاة؛ في الاستفتاح، والركوع، والسجود
وفي الحديث: أن من هديه صلى الله عليه وسلم دعاء الاستفتاح
وفيه: الذكر في الركوع والسجود والاعتدال، والدعاء قبل السلام
وفيه: الإرشاد إلى الأدب في الثناء على الله تعالى ومدحه؛ بأن يضاف إليه محاسن الأمور دون مساوئها على جهة الأدب