باب مجالسة الفقراء1
سنن ابن ماجه
حدثنا يحيى بن حكيم، حدثنا أبو داود، حدثنا قيس بن الربيع، عن المقدام بن شريح، عن أبيه
عن سعد، قال: نزلت هذه الآية فينا ستة: في وفي ابن مسعود وصهيب وعمار والمقداد وبلال. قال: قالت قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنا لا نرضى أن نكون أتباعا لهم، فاطردهم عنك، قال: فدخل قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك ما شاء الله أن يدخل، فأنزل الله عز وجل: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} [الأنعام: 52] الآية (1)
كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَتألَّفُ قُلوبَ زُعماءِ المشْرِكين وكُبَرائهِم؛ حتَّى يَدخُلوا الإسلامَ؛ ليَدخُلَ أقوامُهم معهم، فمِنهم مَن آمَنَ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومنهم مَن ظَلَّ على كُفرِه ومُحارَبةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفي هذا الحديثِ يَرْوي سَعدُ بنُ أَبي وَقَّاصٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّهم كانوا مَع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ستَّةَ أَشخاصٍ مِن فُقراءِ المسْلِمين، وهذا في أوَّلِ الإسلامِ في مكَّةَ؛ لأنَّ سَعدَ بنَ أبي وَقَّاصٍ رَضيَ اللهُ عنه مِن السَّابقين إلى الإسلامِ؛ أسلَمَ وأسلَمَ معه جَماعةٌ، فقالَ المشرِكونَ مِن ساداتِ وأشرافِ قُريشٍ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: اطْرُدْ وأَبْعِدْ عنكَ هَؤلاءِ المواليَ والفُقراءَ، استصغارًا لهم وكِبرًا في أنفُسِهم، «لا يَجتَرِئون عَلينا»، أي: لا يَكون لَهُم جَراءةٌ عَلينا في قُربِهم ومُخاطَبتِهم لنا؛ وذلك إنْ كُنتَ تُريدُ أنْ نُؤمِنَ بكَ ونَدخُلَ عَليك، وكان هؤلاء المشْرِكون أشرافَ قَومِهم، قيل: كان منهم عُيَينةُ بنُ حِصنٍ، والأقرعُ بنُ حابسٍ، وعُتْبةُ بنُ رَبيعةَ، وشَيْبةُ بنُ رَبيعةَ، ومُطعِمُ بنُ عَديٍّ، والحارثُ بنُ نَوفلٍ، وقَرَظةُ بنُ عَبدِ عَمرٍو، أنِفُوا مِن مُجالَسةِ ضُعفاءِ أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
قال سَعدٌ رَضيَ اللهُ عنه: «وكُنتُ أَنا، وابنُ مَسعودٍ، ورَجلٌ مِن هُذيلٍ، وبِلالٌ، ورَجلانِ لَستُ أُسمِّيهما»، أي: لا أُسمِّيهما لِمَصْلَحةٍ فِي ذلِك عِندي، وقيل: لا أَتَذَكَّرُهما للنِّسيانِ، والرَّجلُ مِن هُذَيلٍ والرَّجلانِ الآخَرانِقيلَ هُم: صُهَيْبٌ، وعَمَّارٌ، والمِقدادُ رَضيَ اللهُ عنهم، فوَقعَ في نَفسِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما شاءَ اللهُ أنْ يَقَعَ، أي: مِنَ المَيْلِ إِلى بُعدِهم عن مَجلسِه الَّذي يَجتمِعُ فيه مع هؤلاء المشْرِكين؛ طَمعًا في إِسلامهم، فحَدَّثَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نفسَه أن يَطْرُدَهم حالَ وُجودِ الأَكابرِ عِندَه؛ لِما عَلِم مِن قُوَّةِ إيمانِهم، وأنَّ ذلك لا يَضُرُّهم ولا يَنقُصُ لهم قَدْرًا، وأنَّ تَقريبَ المشْرِكين يُؤدِّي لِإسلامِهم وإسلامِ قَومِهم، ويُشبِهُ هذا ما كان يَفعَلُه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن إعطاءِ أموالٍ للمُؤلَّفةِ قُلوبُهم، ومَنعِ ذلك عن بَعضِ مُحتاجي المؤمِنينَ اكتفاءً بما وَقَر في قُلوبِهم مِن نُورِ الإيمانِ المُغْني عن التَّألُّفِ، ورَأى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ ذلك لا يُفوِّتُ أصحابَه شيئًا؛ فأَنزلَ اللهُ تَعالَى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]، فنَهاهُ اللهُ عزَّ وجلَّ عن طَردِهم، وهُم الَّذين يُريدونَ بِعبادِتِهم رِضا اللهِ تَعالَى ولَيس أَشياءَ أُخَرَ مِن أَغراضِ الدُّنيا. وأمَرَه أنْ يَصبِرَ نفْسَه معهم ويَصحَبَهم بقولِه: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}، فألْزِمْ نفْسَكَ بصُحبةِ الَّذين يَدْعُون ربَّهم دُعاءَ عِبادةٍ ودُعاءَ مَسألةٍ أوَّلَ النَّهارِ وآخِرَه، مُخلِصين له، {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فلا تَتجاوَزْ عَيناكَ فتَنظُرَ بَعيدًا عنهم، تُريدُ بذلك مُجالَسةَ أهْلِ الغِنى والشَّرفِ، وهُم مِن الغافِلين والمشْرِكين، {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28] فَأمَرك بتَنحيةِ الفُقراءِ عن مَجلِسِكَ، وقَدَّم اتِّباعَ ما تَهواهُ نفْسُه على طاعةِ ربِّه، وكانتْ أعمالُه ضَياعًا.
وفي الحديثِ: كَرامةُ هَؤلاءِ النَّفَرِ السِّتَّةِ وأنَّهم كانوا مِن أهْلِ مَحبَّةِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لقَصدِهم وَجْهَه سُبحانه.