باب من أظهر الفاحشة2
سنن ابن ماجه
من حِكَم شرَع الإسلامِ الحدودَ: دَرْءُ المفاسِدِ وزَجْرُ النُّفوسِ عن الوقوعِ في الحرامِ، ولِتَأديبِ مَن وقَع فيها وتطهيرِه، ومعَ ذلك فقد حمَل أمورَ النَّاسِ على السَّلامةِ، وبيَّن أنَّه لا حُدودَ إلَّا مع بَيِّنةٍ واضحةٍ.
وفي هذا الحديثِ يقولُ عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ رَضِي اللهُ عنهما: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "لو كُنتُ راجِمًا أحدًا بغيرِ بيِّنةٍ"، أي: بغيرِ دليلٍ، والبيِّنةُ في الزِّنا تكونُ بإقرارِ المرءِ على نفْسِه بالزِّنا، أو بشهادةِ أربَعةِ رجالٍ عُدولٍ، والرَّجمُ إنَّما يكونُ للرَّجلِ المُحصَنِ أو المرأةِ المحصَنةِ في حالِ ارتكابِهم للزِّنا، "لرجَمتُ فلانةَ؛ فقد ظهَر منها الرِّيبةُ"، أي: ظهر منها ما يُثيرُ الشَّكَّ فيها، "في مَنطِقِها"، أي: يعني فُحْشَ اللِّسانِ والكلامِ، "وهَيئتِها ومَن يَدخُلُ عليها"، ومعنى ذلك: أنَّها تُظهِرُ السُّوءَ، واشتَهَر عنها وشاع، ولكِنْ لم تَقُمِ البيِّنةُ عليها بذلك ولا اعتَرَفَت؛ فدلَّ على أنَّ الحدَّ لا يَجِبُ بالاستفاضةِ، ولكن ببيِّنةٍ قاطعةٍ على ذلك؛ مِن شهودٍ أو إقرارٍ واعترافٍ منها، والحدودُ لا يُبحَثُ لها عَن دَلائِلَ ما لم تَظهَرْ، ولا تَثبُتُ الأحكامُ بمجرَّدِ قرائنِ الأحوالِ.
وقد جاء في أصلِ الرِّوايةِ عِندَ البخاريِّ، عن القاسمِ بنِ محمَّدٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ، أنَّه قال: ذُكِر المتلاعِنانِ عندَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، فقال عاصمُ بنُ عَديٍّ في ذلك قولًا ثمَّ انصرَف، فأتاه رجلٌ مِن قومِه، فذَكَر له أنَّه وجَد مع امرأتِه رجلًا، فقال عاصمٌ: ما ابتُليتُ بهذا الأمرِ إلَّا لقَولي، فذهَب به إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، فأخبَرَه بالَّذي وجَد عليه امرأتَه، وكان ذلك الرَّجلُ مُصفَرًّا، قليلَ اللَّحمِ سَبْطَ الشَّعرِ، وكان الَّذي وجَد عِندَ أهلِه آدَمَ خَدْلًا كثيرَ اللَّحمِ، جَعْدًا قَطَطًا، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: «اللَّهمَّ بيِّنْ»، فوضَعَت شَبيهًا بالرَّجلِ الَّذي ذكَر زَوجُها أنَّه وجَد عِندَها، فلاعَن رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بينَهما، فقال رجلٌ لابنِ عبَّاسٍ في المجلِسِ: هي الَّتي قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: «لو رجَمتُ أحدًا بغيرِ بيِّنةٍ لرَجَمتُ هذه»، فقال ابنُ عبَّاسٍ: لا، تلك امرأةٌ كانت تُظهِرُ السُّوءَ في الإسلامِ.
وفي الحديثِ: أنَّ الحدودَ تُدرأُ بالشُّبهاتِ، وأنَّها لا تُقامُ إلَّا مع وجودِ البيِّنةِ القاطعةِ عليها.
وفيه: حِفظُ الشَّرعِ لأعراضِ النَّاسِ وهَيئاتِهم، وعدَمُ هَتكِها بما شاع مِن سوءِ الفعلِ