باب من أم قوما فليخفف 4
سنن ابن ماجه
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا إسماعيل ابن علية، عن محمد بن إسحاق، عن سعيد بن أبي هند، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، قال:
سمعت عثمان بن أبي العاص يقول: كان آخر ما عهد إلي النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أمرني على الطائف، قال لي: "يا عثمان، تجاوز في الصلاة واقدر الناس بأضعفهم، فإن فيهم الكبير والصغير والسقيم والبعيد وذا الحاجة" (2).
كان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يُربِّي النَّاس على حُسْن الخُلُق، وعلى مُراعاةِ بعضِهم أحوالَ بعضٍ حتَّى في العبادةِ والصَّلاة، فأمَر الإمامَ أنْ يُخفِّف الصَّلاة بالنَّاسِ؛ لأنَّ وراءَه أُناسًا لهم أحوالٌ كثيرة، تستدعي التخفيفَ في الصَّلاة حتى لا يَقِعُوا في الحَرَجِ.
وفي هذا الحديثِ أَمَر النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أحدَ أصحابه، وهو عُثْمان بنُ أَبي العاص الثَّقَفيُّ فقال له:"أُمَّ قومَك"، أي: كن إمامًا لقومِك وأهلِك في الصَّلاة، ولعلَّ هذا كان لعِلْمِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بجَدارتِه بذلك من حيثُ حفظُ القرآنِ والعِلْمُ والقُدْرة على أمْر الإمامةِ، قال عثمانُ: قلتُ: "يا رسولَ الله، إنِّي أجِدُ في نَفْسي شيئًا"، أي: أَجِد في صَدْري وقَلْبي تَردُّدًا من هذا الأمر، من حيث تَوافُر شرائطِ الإمامةِ وإيفاء حقِّها، فقال له النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: "ادَنُهْ" أي: اقْتَرِب، "فجَلَّسَني بين يديه، ثم وضَعَ كفَّه في صَدري بين ثَدْيَيَّ، ثم قال: تحوَّل فوضَعَها في ظَهَري بين كَتِفَيَّ"، وكأنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم يَدْعو له أنْ يُذهِب اللهُ ما في نَفْسه من التَّردُّد أو الخوفِ من الإمامةِ، ولإزالةِ ما يمنعه منها وإثباتِ ما يُقوِّيه على احتمالِ ما يُصلِحه لها من القرآنِ والفِقه، ثمَّ قال: "أُمَّ قومَك، فمَن أمَّ قومًا فليُخفِّف؛ فإنَّ فيهم الكبيرَ، وإنَّ فيهم المريضَ، وإنَّ فيهم الضَّعيفَ، وإنَّ فيهم ذا الحاجةِ"، وهذه احتياجات مُتعدِّدة في المصلِّين تستدعي التخفيفَ، وهذا التخفيفُ مع الإتمام، وليس فيه دعوةٌ إلى التَّجاوُز عن كمالِ الصَّلاة، "وإذا صلَّى أحدُكم وحْدَه، فليُصلِّ كيف شاء"، وهذه نصيحةٌ وإرشادٌ من النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم للصَّحابي وللأُمَّة كلِّها أنَّ المرءَ يُصلِّي لنَفْسه ما شاء وكيفما شاء مِن التَّطويل، ولكن إذا صلَّى للجماعة فليُخفِّف.
وفي الحديث: أمْرُ النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم لِمَن فيه القُدرةُ على الإمامةِ بأنْ يقوم بها.
وفيه: بيانُ أحوالٍ كثيرةٍ تَستدعي التخفيفَ على الجماعةِ في الصَّلاة.
وفيه: مشروعيَّة أنْ يُصلِّي المرء لنَفْسه ما شاءَ.