باب من استأجر أجيرا فترك أجره فعمل فيه المستأجر، فزاد، أومن عمل في مال غيره فاستفضل
بطاقات دعوية
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
"انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم [يمشون، فأصابهم المطر 3/ 37]، حتى أووا المبيت إلى غار [في جبل 3/ 69]، فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل، فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم (وفي طريق ثان: بأفضل عمل عملتموه، وفي رواية ثانية منها: إلا الصدق، فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه 4/ 147. وفي ثالثة منها: فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالا عملتموها صالحة لله، فادعوا الله بها؛ لعله يفرجها عنكم)، فقال رجل منهم: اللهم! [إنه] كان لي أبوان شيخان كبيران، [وصبية صغار، أرعى عليهم]، وكنت لا أغبق (6) قبلهما أهلا ولا مالا،(وفي رواية: فكنت أخرج فأرعى، ثم أجيء فأحلب، فأجيء بالحلاب، فآتي أبوي، فيشربان، ثم أسقي الصبية وأهلي وامرأتي، وفي أخرى: وكنت آتيهما كل، ليلة بلبن غنم لي)، فنأى (7) بي في طلب شيء يوما، فلم أرح عليهماحتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما [كما كنت أحلب]، فوجدتهما نائمين، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، [وأهلي وعيالي (وفي رواية: والصبية) يتضاغون من الجوع] [عند رجلي]، فلبثت [عند رؤوسهما]، والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما (وفي رواية: فلم يزل ذلك دأبي ودأبهما)، حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم! إن كنت [تعلم أني] فعلت ذلك ابتغاء وجهك، ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة (وفي رواية: فافرج عنا فرجة نرى منها السماء، قال:)، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج (وفي رواية: ففرج الله لهم فرجة حتى يرون منها السماء 7/ 70)، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
وقال الآخر: اللهم! [إن كنت تعلم] [أنه] كانت لي بنت عم، كانت أحب الناس إلي (وفي رواية: أحببتها كأشد ما يحبذث الرجال النساء)، فأردتها (وفي رواية: راودتها) عن (وفي أخرى: فطلبت منها. وفي لفظ: إليها) نفسها، فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني [فقالت: لا تنال ذلك منها حتى تعطيها مائة دينار، فسعيت فيها (وفي رواية: فبغيت (*). وفي أخرى: فطلبتها) حتى جمعتها]، فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت،حتى إذا قدرت عليها (وفي طريق: فلما وقعت بين رجليها)؛ قالت: [يا عبد الله!] لا أحل لك أن (وفي الطريق المذكورة: اتق الله، ولا) تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها، وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم! [فـ] إن كنت [تعلم أني] [قد] فعلت ذلك ابتغاء وجهك (وفي الطريق: من خشيتك)؛ فافرج عنا ما نحن فيه (وفيها: فافرج عنها فرجة)، فانفرجت [عنهم] الصخرة [حتى نظروا إلى السماء] (وفي الطريق الأخرى: ففرج عنهم الثلثين)؛ غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
وقال الثالث: اللهم! [إن كنت تعلم] أني [كنت] استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم؛ غير رجل واحد [عمل لي على فرق من أرز (وفي طريق: ذرة)]، [فلما قضى عمله قال: أعطني حقي]، [فعرضت عليه] [حقه، فـ] ترك الذي له [ورغب عنه]، وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال (وفي طريق: فعمدت إلى ذلك الفرق، فزرعته، حتى اشتريت منه بقرا وراعيها)، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله! [اتق الله، ولا تظلمني، و] أدي إلي أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك (وفي طريق: من ذلك الفرق) من الإبل والبقر والغنم والرقيق (وفي طريق: فقلت: اذهب إلى ذلك البقر ورعاتها، فخذ)، فقال: يا عبد الله! [اتق الله، و] لا تستهزىء بي، فقلت: إني لا أستهزىء بك، [ولكنها لك]، [فخذ]، فأخذه كله، فاستاقه، فلم يترك منه شيئا، اللهم! فإن كنت [تعلم أني] فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما نحن فيه (وفي طريق: ما بقي)، فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون"
الدُّعاءُ والتَّقرُّبُ إلى اللهِ تعالَى بصالِحِ الأعمالِ والإخلاصِ سَبَبٌ لتَفْريجِ كُلِّ كَرْبٍ.
وفي هذا الحديثِ يَحكِي النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه انطَلَقَ ثَلاثةُ رَهْطٍ مِنَ الأُمَمِ السَّابقةِ -والرَّهْطُ: ما دونَ العَشَرَةِ مِنَ الرِّجالِ لا يكونُ فيهِمُ امْرأةٌ، وإنَّما جاز تَمييزُ الثَّلاثةِ بالرَّهطِ؛ لأنَّه في معْنى الجماعةِ- حتَّى لَجَؤوا إلى غارٍ لِيَبيتوا فيه، وفي الصَّحيحَينِ: أنَّهم دَخَلوه بسَببِ نُزولِ الأَمْطارِ، والغارُ: الكَهْفُ في الجَبَلِ، فنَزَلَتْ مِن أعلى الجبلِ صَخرةٌ فأغلَقَتْ مَخْرَجَ الغارِ الَّذي يَخرُجون منه، فَحُبِسَ الثَّلاثَةُ داخِلَ هذا الكهْفِ، فقال بَعضُهم لبَعضٍ: إنَّه لا يُنْجِيكُمْ مِن هذه الصَّخرةِ إلَّا أنْ تَتوسَّلوا إلى اللهِ وتَدْعوهُ بما كان مِن عَملِكُم الصَّالِحِ؛ حتَّى يَستجيبَ لكم، فيُبعِدَ تلك الصَّخرةَ عن بابِ الكهْفِ.
فقال رَجُلٌ منهم: «اللَّهُمَّ كان لي أَبَوانِ شَيْخانِ كَبيرانِ، وكنتُ لا أَغْبِقُ قَبْلَهما»، أي: لا أُقَدِّمُ عليهما أحدًا في شُرْبِ لَبنِ العَشِيِّ؛ لا أهلًا ولا مالًا، وهذا كِنايةٌ عن شِدَّةِ بِرِّهِ بهما؛ بأنْ يَجعَلَهما أوَّلَ الشاربينَ مِن لَبَنِ العَشاءِ وأوَّلَ الطاعِمينَ، ثمَّ أخبَرَ أنَّه ذاتَ يومٍ طال بهِ الوقتُ خارجَ البيتِ؛ لِبُلوغِ بَعضِ الحاجةِ، فلمْ يَرجِعْ إلى البيتِ حتَّى نام الأَبَوانِ، فَحَلَبَ لهما اللَّبَنَ الَّذي يَشْرَبانِهِ قَبْلَ نَوْمِهما، ولكنَّه لمَّا ذهَبَ إليهما لِيَسقِيَهما وَجَدَهما قدْ ناما، وكَرِهَ أنْ يُخلِفَ عادتَه، فامْتَنَعَ عن أنْ يَشرَبَ هو مِن هذا اللَّبنِ أو أنْ يَسقِيَ أَحَدًا قَبْلَهما، قال الرَّجلُ: «فَلَبِثْتُ والقَدَحُ على يَدي أَنْتَظِرُ استِيقاظَهما حتَّى بَرَقَ الفجرُ»، أي: ظَهَرَ ضِياؤُهُ، والقَدَحُ: الوِعاءُ الَّذي يُشرَبُ فيه، فتَرَكَهما نائمَيْنِ مُفَضِّلًا السَّهَرَ في انتظارِهما على أنْ يُوقِظَهما مِن نَومِهما حتَّى يكونَا هما المُسْتَيقِظَينِ مِن تِلقاءِ أنفُسِهما، قال الرَّجلُ: «اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ فعَلْتُ ذلك ابتِغاءَ وَجهِكَ»، وطَلَبًا لِمَرضاتِكَ، «ففَرِّجْ عنَّا ما نحنُ فيه مِن هذه الصَّخرةِ»، واجعَلْ لنا منها مَخْرَجًا، فأخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ بابَ الغارِ فُتِحَ قَدْرًا يَسيرًا، ولكنْ لا يَستطيعون الخُروجَ.
ثمَّ قال الرجُلُ الثاني: اللَّهُمَّ كانتْ لي بِنْتُ عَمٍّ كانت أَحَبَّ النَّاسِ إلَيَّ، وأردْتُ أنْ أَزْنِيَ بها، فامْتَنَعَتْ منِّي، حتَّى نَزَلَتْ بها مَضَرَّةٌ جعَلَتْها في حاجةٍ وفَقْرٍ، فجاءتْ تَطلُبُ منِّي المُساعَدةَ، فأعطيْتُها عِشرينَ ومِئةَ دِينارٍ، وشَرَطْتُ عليها أنْ تُمكِّنَني مِن نفْسِها مُقابِلَ المالِ، فوافقَتْ، حتَّى إذا تَمكَّنتُ منها، واقترَبْتُ مِن جِماعِها، قالَتْ لي: «يا عبدَ اللهِ، اتَّقِ اللهَ» -كما في الصَّحيحَينِ- «لا أُحِلُّ لك أنْ تَفُضَّ الخاتَمَ إلَّا بِحَقِّهِ»، فذكَّرَتْه باللهِ عزَّ وجلَّ وتَقْواه، وسَألَتْهُ أنْ يَنتَهيَ عنها ولا يُواقِعَها، وألَّا يُزِيلَ بَكارَتَها إلَّا بالزَّواجِ الَّذي أحلَّهُ اللهُ، فتَجنَّبها ولم يَزْنِ بها؛ لِمَا ذكَّرَتْهُ به مِن حقِّ الله فيها، قال الرَّجُلُ: «وهي أَحَبُّ النَّاسِ إلَيَّ»، وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّ حُبَّهُ لها كان أَدْعى إلى الوقوعِ عليها، ومع ذلك انْصرَفَ عنها، وترَكَ لها المالَ الَّذي قد أَخَذَتْهُ منه، ثمَّ قال: «اللَّهُمَّ إنْ كُنتُ فعَلْتُ ذلك ابتغاءَ وَجهِكَ فافْرِجْ عنا ما نحنُ فيه»، فأخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ بابَ الغارِ فُتِحَ قَدْرًا يسيرًا، ولكنْ لا يَستطيعون الخُروجَ.
ثمَّ قال الثَّالِثُ: اللَّهمَّ إنِّي اسْتَأجَرْتُ عُمَّالًا يَعمَلونَ عِندي مُقابِلَ أَجْرٍ، فأعْطَيتُهم أجْرَهم إلَّا عامِلًا واحدًا ذهَبَ ولم يَأخُذْ أُجْرَتَهُ، «فثَمَّرْتُ أَجْرَهُ» وتاجَرْتُ له به، «حتَّى كَثُرَتْ منه الأموالُ»، فزادَ نَماءُ هذه الأُجْرةِ، ثمَّ جاءني الأجيرُ الَّذي تَرَكَ أُجرَتَهُ بعْدَ مُدَّةٍ مِنَ الزَّمنِ، فَطَلَبَ منِّي أُجْرتَهُ التي تَرَكَها، فقُلتُ له: كُلُّ أنواعِ المالِ الَّتي أمامَ نَظَرِكَ مِنَ الإبلِ والبَقَرِ والغَنَمِ والرَّقيقِ، هو أَجْرُكَ الَّذي ترَكْتَ، والرَّقيقُ: هُمُ العَبيدُ المَملوكونَ، فقال الأجيرُ: «يا عبدَ اللهَ، لا تَستهزِئْ بي!» يَستنكِرُ عليه ما يَدَّعيهِ مِن أنَّ أُجْرتَهُ قدْ بلَغَتْ كُلَّ ذلك، فقال له: «إنِّي لا أَستهزِئُ بك»، فأخَذَ الأجيرُ كُلَّ ذلك المالِ الَّذي أشار به إليه، وفي ذلك إشارةٌ إلى أنَّ الرَّجُلَ لم يَطمَعْ في شَيءٍ مِن ذلك، ولو بِقَدْرِ ما يَترُكُ له الأجيرُ مِن مُكافَأَةٍ له نَظيرَ فِعْلِهِ، قال الرَّجلُ: «اللَّهمَّ فإنْ كنتُ فعَلْتُ ذلك ابتغاءَ وَجهِكَ فافْرِجْ عنَّا ما نحنُ فيه»، فأخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ الصَّخرةَ انْفَرَجَت كلُّها، فَتَمَّ لهم بتِلك الدَّعوةِ فَتْحُ بابِ الغارِ، فخَرَجوا يَمْشُونَ.
وفي الحديثِ: التَّوسُّلُ إلى اللهِ تعالَى بالأعمالِ الصَّالحةِ.
وفيه: بَيانُ فَضلِ الإخلاصِ.
وفيه: بَيانُ فضْلِ بِرِّ الوالِدَيْن، وفَضلِ تَقديمِهما على سائِرِ الأهلِ والأقارِبِ.
وفيه: فَضلُ التَّعفُّفِ عن الحَرامِ ومُراقبةِ اللهِ تعالَى والخوفِ مِنه.
وفيه: الحَثُّ على بَذْلِ الخيرِ للآخَرينَ دونَ تَلَمُّسِ أَجْرٍ منهم على ذلك، والحَذرُ مِن الطَّمَعِ.