باب هل يؤاجر الرجل نفسه من مشرك في أرض الحرب؟
بطاقات دعوية
عن خباب رضي الله عنه قال: كنت رجلا قينا (8) [بمكة 5/ 237] [في الجاهلية 3/ 13]، فعملت للعاصي بن وائل [السهمي سيفا]، فاجتمع لي عنده [دين (وفي رواية: دراهم 3/ 92)] (9)، فأتيته أتقاضاه، فقال: لا والله! لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: أما والله! حتى تموت ثم تبعث فلا (وفي رواية: قلت: لا أكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - حتى يميتك الله ثم يحييك) (10). قال: وإني لميت ثم مبعوث [من بعد الموت؟! 5/ 238]، قلت: نعم، قال: فإنه سيكون لي ثم مال، وولد، فأقضيك، فأنزل الله تعالى: {أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا}. [{أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا. كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا. ونرثه ما يقول ويأتينا فردا}]
كان العاصي بنُ وائلٍ مِن جُملَةِ مُشْركي قُرَيشٍ، ومِنَ الَّذينَ لا يُؤمِنونَ بالبعْثِ بعْدَ الموتِ، وقد حملهم شِرْكُهم مع إنكارِهم البَعْثَ على الاستزادةِ في ظُلمِ النَّاسِ وأكلِ أموالهم بالباطِلِ.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ خبَّابُ بنُ الأرتِّ رضِيَ اللهُ عنه أنَّه كان يعملُ حدَّادًا، وكان حينَئذٍ مُسلِمًا، فصنع لِلعاصِ بنِ وائلٍ سيْفًا، ولَمَّا جاءَه ليَأخُذَ أجْرَ السَّيْفِ، قال له العاصي بنُ وائلٍ: لا أُعطيكَ ثَمَنَه حتَّى تَكفُرَ بِمحمَّدٍ، فقال له خبَّابُ بنُ الأَرَتِّ رضِي اللهُ عنه: لا أَكفُرُ بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى يُميتَكَ اللهُ ثُمَّ يُحيِيَك، ولم يُرِدْ خبَّابٌ رضِيَ اللهُ عنه أنَّه إذا بعَثَهُ اللهُ بعْدَ الموتِ أنْ يَكفُرَ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّه حينئذٍ يوَدُّ الَّذينَ كَفَروا لو كانوا مُسلِمين، ويتمنَّى العاصي بنُ وائلٍ وغيرُه أنْ لو كانوا تُرابًا ولم يَكونوا كفَّارًا، وبعْدَ البعثِ يَسْتوي يَقينُ المكذِّبِ مع يَقينِ المؤمنِ، ويَرتفِعُ الكفرُ وتَزولُ الشُّكوكِ، ولكنَّ غرَضَ خبَّابٍ رضِيَ اللهُ عنه مِن قولِه قطْعُ أمَلِ العاصي بنِ وائلٍ مِن أنْ يكفُرَ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
فقال العاصي: «إذا أَماتَني اللهُ ثُمَّ بعثَني وَلِي مالٌ وولَدٌ» أي: إنَّه سيكونُ لي في الجنَّةِ مالٌ وولَدٌ، فَأُعطِيك حقَّ عَملِكَ حينئذٍ، فأنْزَلَ اللهُ سُبحانه وتعالَى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 77، 78]، والاستفهامُ في قَولِه سُبحانَه: {أَفَرَأَيْتَ} للتعجيبِ مِن شأنِ هذا الكافِرِ الجَهولِ، والمعنى: أنظَرْتَ أيُّها العاقِلُ فرأيتَ هذا الجاحِدَ الذي كفر بآياتِنا الدَّالَّةِ على وحدانيَّتِنا، وعلى أنَّ البَعثَ حَقٌّ، وعلى أنَّ ما جاء به رسولُنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حقٌّ وصِدقٌ، ولم يكتَفِ بهذا الكُفرِ، بل قال بكُلِّ تبجُّحٍ وإصرارٍ على الباطِلِ، واستهزاءٍ بالدِّينِ الحَقِّ: واللهِ لأوتَيَنَّ في الآخرةِ مالًا وولدًا كما هو حالي في الدُّنيا. ثم أنكَرَ اللهُ عزَّ وجَلَّ عليه هذا القَولَ، فساق استفهامًا إنكاريًّا متسائِلًا: هذا الَّذي يَدَّعِي أنَّه سيَكونُ له مالٌ ووَلدٌ بعْدَ مَوتِه على الكُفرِ؛ هل علِمَ الغيبَ واطَّلعَ على ما سيَكونُ، أمْ كان له عهْدٌ عندَ اللهِ بذلك؟! والحَقُّ أنَّه لم يطَّلِعْ على الغَيبِ، ولم يتَّخِذْ عند الرَّحمنِ عَهدًا، بل قال ذلك افتراءً على الله، ثُمَّ توعَّدَه اللهُ بِالعذابِ في الآياتِ بعْدَها.
وفي الحَديثِ: سوءُ عاقِبةِ من أنكر البَعثَ بعد الموتِ.
وفيه: بيانُ جانبٍ مما لاقاه المسلِمون الأوائِلُ في مكَّةَ من المُشرِكين، وصَبْرِهم على ذلك.
وفيه: فضيلةُ خَبَّابِ بنِ الأرَتِّ رَضِيَ اللهُ عنه وشدَّةُ تمسُّكِه بإيمانِه.