باب من بلغ علما 4
سنن ابن ماجه
حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى بن سعيد القطان أملاه علينا، حدثنا قرة بن خالد، حدثنا محمد بن سيرين، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، وعن رجل آخر هو أفضل في نفسي من عبد الرحمن بن أبي بكرة
عن أبي بكرة، قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر، فقال: "ليبلغ الشاهد الغائب، فإنه رب مبلغ يبلغه أوعى له من سامع" (1).
حَجَّ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حَجَّةً واحدةً، وهي حَجَّةُ الوداعِ، وفيها خطَبَ أصحابَه، ووصَّاهم بِأمورٍ مِن أُصولِ الشَّريعةِ، منها ما في هذا الحَديثِ، حيثُ روى أبو بَكرةَ الأنصاريُّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خطَبَ في الناسِ يومَ النَّحرِ، وهو العاشرُ مِن ذي الحِجَّةِ، وهو الموافقُ عيدَ الأضْحى، وكان قاعدًا فوقَ جَمَلِه، وكان هناك رجُلٌ يُمسِكُ بِخِطامِ نَاقتِه، وهو خَيطٌ تُشدُّ فيه حلْقةٌ تُجعَلُ في أَنفِ البعيرِ ليُقادَ بسُهولةٍ، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِأصحابِه: «أيُّ يومٍ هذا؟» فَسَكَتوا حتَّى ظنُّوا أنَّه سيُغيِّرُ اسمَه؛ لأنَّه كان مَعروفًا لِلجميعِ، وهذا أيضًا مِن حُسنِ أَدبِهم مع نبيِّهم، وفيه إشارةٌ إلى تَفويضِ الأُمورِ الكُلِّيَّةِ إلى الشارعِ، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «أليسَ يومَ النَّحرِ؟» وسُمِّيَ بذلك؛ لِما يَجري فيه مِن نَحْرِ الهدْيِ والأضاحي، فقالوا: «بلى»، فقال: «فأيُّ شهْرٍ هذا؟» فسَكَتوا أيضًا؛ لأنَّهم ظنُّوا أنَّه سيُغيِّرُ اسمَه الَّذي يَعرِفونَه، فقال: «أليسَ بذي الحِجَّةِ؟» فقالوا: بلى، وسُؤالُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هذَينِ السُّؤالينِ، وسُكوتُه بعْدَ كلِّ سُؤالٍ؛ كان لاستِحضارِ فُهومِهم، ولِيُقبِلوا عليه بكُلِّيَّتِهم، وليَستشعِروا عَظَمةَ ما يُخبِرُهم عنه؛ ولذلك أخبَرَهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ حُرمةَ الاعتداءِ على الأموالِ والأعراضِ كَحُرمةِ يومِ النَّحْرِ والشَّهرِ الحرامِ ومكَّةَ المكرَّمةِ، وهذا مِن التَّشديدِ والتَّغليظِ في بَيانِ تَحريمِ هذه الأشياءِ، ثمَّ أمَرَ الحاضِرِين أنْ يُبلِّغوا الغائبينَ بما قالَه؛ فلعلَّ الغائبَ يكونُ أَوعى وأفْهَمَ مِنَ السَّامعِ المُبلِّغِ.وفي الحَديثِ: مَشروعيَّةُ التَّبليغِ ورِوايةِ الحديثِ، وشرَفُ هذا العِلْمِ، وأهلِه.وفيه: أنَّ العِلْمَ بالحديثِ شَيءٌ والفِقهَ فيه شَيءٌ آخَرُ؛ فقد يَروي المُحدِّثُ إلى مَن هو أفقَهُ منه، وقد يكونُ المُحدِّثُ غيرَ فَقيهٍ.وفيه: جَوازُ القُعودِ على ظَهرِ الدَّوابِّ وهي واقفةٌ إذا احتِيجَ إلى ذلك.وفيه: الخُطبةُ على مَوضعٍ عالٍ؛ ليَكونَ أبلَغَ في إسماعِه للناسِ ورُؤيتِهم إيَّاه.